يقول مَثَل فارسي «يركض السارق في اتجاه والمسروق في ألف اتجاه»، فاللص لا يلج مكاناً إلا وقد خطط مسبقاً اتجاهه ومساره، بينما يتخبط المسروق في ردات فعل متشنجة تشتت تركيزه، وبالتالي، الفائدة من تحركاته، وفي الأيام الحالية، أتقن الإيرانيون دور هذا السارق لدرجة
يقول مَثَل فارسي «يركض السارق في اتجاه والمسروق في ألف اتجاه»، فاللص لا يلج مكاناً إلا وقد خطط مسبقاً اتجاهه ومساره، بينما يتخبط المسروق في ردات فعل متشنجة تشتت تركيزه، وبالتالي، الفائدة من تحركاته، وفي الأيام الحالية، أتقن الإيرانيون دور هذا السارق لدرجة غير مسبوقة!
كيف ذلك. لنلقِ نظرة على دراسة نشرت ملخصها BBC News، وقامت بها مجلة Perspectives on Politics التابعة لجامعة كامبريدج، عن النظام السياسي الأميركي، والتي خرجت بنتيجة صادمة، بأن نموذج الحكم الأميركي ليس ديمقراطياً فعلياً، وإنما هو حكم «أقلية»، وهذه الأقلية ليست أيضاً المتعارف عليها في دراسات النظم السياسية، وإنما هي «حُكم اللوبيات» ذات الثروة والنفوذ والعلاقات الواسعة، والتي لها التأثير الأكبر في صناعة السياسات، وتوجيه القرارات داخلياً ودولياً، وهذا ما ركّز عليه ساسة طهران مبكراً، لتحريك الكثير من الخيوط مستقبلاً!
أسست إيران أول لوبي لها باسم «بيناد بهلوي» عام 1973 في الشارع الخامس بنيويورك، وبعد سقوط الشاه وقدوم الملالي، تغيّر الاسم إلى «بيناد مستضعفان»، ثم «بيناد علوي»، ويتبع مباشرة لمحمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني، والسفير السابق في واشنطن، كما تأسس لوبي المنظمة الأميركية الإيرانية، ومن نشطائه البروفيسور بجامعة روتغر في نيوجيرسي، شيانغ أمير أحمدي، إلا أنّ رأس الحربة الرئيسة، هو المجلس الوطني الإيراني الأميركي NIAC، والذي يترأسه الكاتب تريتا بارسي، تلميذ المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، والذي قام بدور هائل في قلب الطاولة في واشنطن، ليصبح الحليف عدواً، والعدو حليفاً، على مسرح الشرق الأوسط، ويضم المجلس اثنين من الدبلوماسيين الأميركيين السابقين، أيضاً هما توماس بيكرينغ السفير السابق في إسرائيل، وجون يمبرت، الذي احتجزه نظام الخوميني كرهينة عام 1979!
نجح المجلس في تنظيم الإيرانيين الموجودين على التراب الأميركي، لخلق قوة مؤثرة ناعمة، إذ يتجاوز عدد الإيرانيين والأميركيين من أصول إيرانية في الولايات المتحدة، الأربعة ملايين، ويملكون قوة مالية تُقدَّر بـ 400 مليار دولار، وقاموا بتأسيس أكثر من 320 شركة كبيرة، ومساهمون في أكثر من 450 شركة نافذة أخرى، بينما تشير الإحصاءات الأميركية الرسمية، إلى أنّه يوجد ممن هم من أصول إيرانية 7000 طبيب، و1300 متخصص في العلوم البحثية والتطبيقية، يعملون في المؤسسات الأميركية.
لقد فَهِمَ اللوبي الإيراني تراتبية صنع القرار في أميركا، وعرف كيفية التأثير فيها، ووفقاً لذاك الفهم، وجّه الإيرانيون المقيمون عليها لتخصصات بعينها، تخدم الأجندة الخفية له، وتساعده للتغلل في مراكز النفوذ المختلفة، فالإناث تم توجيههن للسيطرة على قطاعات التخطيط الاستراتيجي والتسويق والعلاقات العامة وأمن المعلومات والأرشيف والسكرتارية والاستشارات النفسية والتربوية، والشباب للتركيز على التقنية والعلاقات الدولية ومقارنة الأديان، ورجال الأعمال للدخول بقوة في شراكات في قطاعات الأسلحة والطاقة والأدوية والاتصالات والمواصلات، وشجع اللوبي، الإيرانيين في الدخول في علاقات زواج من أبناء العائلات الأميركية «الثرية» و«النافذة» لخدمة الأجندة الإيرانية بطريقة أكثر قوة، ومن «الداخل»!
نجح تريتا بارسي من خلال طرح اللوبي وكتّابه لتصورات سياسية ودراسات استشرافية للشرق الأوسط، وبالانتقاء النوعي لبعض الأحداث، للخروج بنتائج تعميمية تؤيد النظرة السياسية الإيرانية للمنطقة، وبتنظيمه للعديد من اللقاءات مع المسؤولين الأميركان وأعضاء الكونغرس والفعاليات التي تتم في الجامعات، ليس فقط في اختراق المؤسسات الرسمية ذات النفوذ، بل في اختراق «الوعي المجتمعي»، بتقديمه «العنصر الفارسي» كإنسان متحضّر ذي فكر منفتح وقريب من العقلية الغربية، لم يتم فهمه بطريقة صحيحة سابقاً، بسبب تشويه الحليف الحالي لأميركا لهم، وهم عرب الخليج، وتحديداً السعودية، التي يركزون على نبزها باسم الوهابية، والتقت هنا الصورة النمطية التي رُسّخت من اللوبي الصهيوني ثم الإيراني، عن العربي، بأنّه شخص غادر مخادع بربري جاهل، لا تُحرّكه إلا الشهوات والغرائز!
في لعبة الإعلام والتأطير هذه، نجح بارسي أيضاً في تسويق أنّ حلّ الأزمات السياسية في الشرق الأوسط، لا يكمن في حل القضية الفلسطينية فقط، بل يعتمد على إيجاد «أرضية» توافق وثقة بين إيران وإسرائيل، وأنّ أي حل للأزمة السورية، لا يمكن أن ينجح دون أن تكون إيران على الطاولة كطرف رئيس، وسوّق لوبي «ناياك»، صوراً لقاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، والذي يرفض بارسي اعتباره تنظيماً إرهابياً، وهو محاط بجنود «أكراد»، في ذات الوقت الذي ملؤوا فيه الساحة بمقالات عن قيام «حزب الله» اللبناني بتسليح «المسيحيين»، لحمايتهم من داعش، التي يكرّرون أنها «وهابية»، لإلصاقها بالسعودية، حليفة أميركا الحالية، ليقولوا للغرب: نحن شركاؤكم الموثوقون في محاربة الإرهاب، ونحن «حُماة» الأقليات المهددة في الشرق الأوسط!
في الفترة المعاصرة، يركّز بارسي على تمرير الرؤية الإيرانية للقضية السورية، لنسف بقايا الثقة الغربية بعرب الخليج، ويكرّر كثيراً، تصوير التدخل الخليجي بأنه استراتيجية «ضرب عصفورين بحجرٍ واحد»، من خلال دعم عرب الخليج، والسعودية تحديداً، لقوات المعارضة «الأصولية»، والتي ستؤدي لنتيجتين، كما يقررها رئيس لوبي ناياك: الأولى أن الأصوليين الإرهابيين سيؤذون النظام السوري الشرعي، فهو يتفق مع الملالي، بأن المجرم بشار هو المرجعية الرسمية، والنتيجة الثانية، أن سوريا ستكون بؤرة للإرهابيين، ومكاناً للتخلص منهم بعيداً عن الداخل الخليجي، ووضعهم مباشرة أمام إسرائيل والأقليات المسيحية في سوريا ولبنان، وهكذا يخسر الجميع، ويكسب السعوديون والعرب!
إنّ الأفعى الإيرانية ليست موجودة في واشنطن فقط، بل أصبحت موضع ترحيب، ويكفي أنها حوّرت الصراع إقليمياً من صراع عربي فارسي، إلى صراع ضد الإرهاب الملصق بنا فقط، والحق أننا قصرنا كثيراً، كعرب، في إيجاد مقاربات مختلفة مع واشنطن، الأمر الذي ترك إدارة أوباما لتكون أرضاً مستباحة للوبي الإيراني، ويكفي للدلالة على ذلك، إطلاق موظفي الإدارة على أحد شوارع مساتشوستس، الذي تكثر به مراكز الدراسات العربية، بأنها «أرض محتلة عربياً»!
نقلًا عن صحيفة البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة