معركة إدلب من الممكن تلافيها في إطار جهود سياسية حقيقية، لكن السؤال يبقى.. هل تريد الأطراف المحلية ودول تفاهمات الأستانة الثلاث ذلك؟
المعلن رسميا في موسكو وأنقرة وطهران هو أن القمة المقررة يوم الجمعة المقبل في العاصمة الإيرانية بين القيادات السياسية في الدول الثلاث تتطلع لوضع خطة حل لملف إدلب الذي يتزايد تشابكا وتعقيدا، والتوصل إلى بلورة رؤية مشتركة لحل الأزمة السورية، ويردد الناطق باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي إن القمة الإيرانية-التركية-الروسية تهدف إلى "إعادة الهدوء إلى سوريا والقضاء على الإرهاب فيها"، لكن ما يجري على الأرض يقول العكس تماما: موسكو والنظام في دمشق ينفذان غارات جديدة ضد مواقع "هيئة تحرير الشام"، لتؤكد أن خيار الحسم العسكري هناك هو الأقرب، فتركيا التي تكرر أن التفاهمات السياسية هي الصيغة الوحيدة لتجنيب المدينة الكارثة تواصل هي الأخرى تعزيزاتها واستعداداتها العسكرية لمعركة طاحنة قد تعرف متى وأين تبدأ، لكن لا تعرف ضد من ستكون وبأي شكل ستنتهي.
مهما صدر عن قمة طهران من قرارات وتوصيات فإنه دون تفاهم أمريكي روسي مباشر حول إدلب لن تحسم المسألة، فموسكو ستنقل لواشنطن نتائج اجتماعات طهران، وواشنطن ستقول ما عندها بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين، وهي ستكون الفرصة الوحيدة لإخراج إدلب وربما سوريا من أزمتها
معركة إدلب من الممكن حتما تلافيها في إطار جهود سياسية حقيقية، لكن السؤال يبقى هل تريد الأطراف المحلية ودول تفاهمات الأستانة الثلاث ذلك؟
السيناريو الأقرب الذي يتبناه الإيرانيون والروس هو أن النظام السوري سيقتحم إدلب عاجلاً أم آجلاً بدعم وتشجيع روسي إيراني، وهذا ما أثبته أكثر من مرة في السابق على أكثر من جبهة، وليس لأن مصلحته هي التي تفرض عليه ذلك، بل لأن حليفيه في موسكو وطهران يعلمان جيدا أنه حتى ولو حلت الجماعات المتشددة نفسها فهي ستظل أمامه حجر عثرة في حساباتهما السورية.
المؤكد هو أن موسكو وطهران يريدان الجلوس أمام أنقرة في القمة الثلاثية بأوراق ضغط ونفوذ أكبر بعد توريطها أكثر فأكثر في مستنقع إدلب وعقدة "هيئة تحرير الشام"، لكن الواضح أيضا هو أن موسكو ستفشل في محاولة التوفيق بين الطرحين التركي والإيراني إذا لم نشأ القول إنها هي أساسا لا تريد ذلك لحصد الكثير من المكاسب السياسية في سوريا، وتوفير المناخ الذي تريد فرضه على اللاعبين الإيراني والتركي.
من هنا فالواضح أن بين أهداف الغارات الجوية الروسية والسورية الأخيرة على إدلب:
تذكير أنقرة أن موسكو ودمشق لن تصبرا كثيرا كي يحسم الأتراك موقفهم في المعركة ضد "أوكار الإرهاب" كما يقول الكرملين، قبل أن يكون الهدف التصدي لطائرات الاستكشاف المسيرة التي تستخدمها مجموعات "هيئة تحرير الشام" في طلعات عروض بهلوانية فوق القواعد العسكرية الروسية في شمال سوريا.
وأن موسكو كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "لن تصبر إلى ما لا نهاية" على الوضع القائم في إدلب.
وهي لن تتردد في الرد حتى لو كان المعني الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أطلق تحذيراته حول أن أي هجوم روسي إيراني متهور على محافظة إدلب قد يتسبب بمقتل مئات الآلاف وارتكاب خطأ إنساني جسيم.
في المقابل هناك العديد من الحقائق التي لا يمكن تجاهلها:
سلامة مئات آلاف المدنيين في تلك المنطقة هو آخر همّ دول الأستانة، والتجارب في العامين الأخيرين على أكثر من جبهة سورية تؤكد ذلك، فقد كان هناك مشروع مناطق تخفيض التوتر في 4 بقع سورية فتحولت كلها إلى ساحات مواجهة وتدمير، بعكس القرارات والتوصيات المتفق عليها في العاصمة الكازاخية منذ أكثر من عام، ومصير إدلب لن يختلف كثيرا عن مصير المناطق الأخرى.
الدول الثلاث لا تأخذ بعين الاعتبار وضعية إدلب التي كانت دائما تدفع ثمن تحمل المزيد من الأعباء البشرية والأمنية بعد كل معركة تجري على الجبهات السورية في أكثر من مكان، ورغبة أكثر من 3 ملايين مواطن سوري في حماية ما تبقى بيدهم من ملاذ وضمانة حياتية.
قناعة الدول الثلاث الضامنة في الأستانة أن معركة إدلب ستكون الحاسمة في رسم مرحلة التسوية السياسية في سوريا، وأنه لا بد من الخروج من هذه المواجهة بتسجيل انتصارات عسكرية وسياسية تعزز المواقف أمام طاولة التفاوض.
مشكلة قمة طهران الثلاثية أنها لا تأخذ بعين الاعتبار حجم العودة الأمريكية إلى قلب المشهد السوري، وأن الضوء الأخضر للهجوم على إدلب أمره ليس فقط بيد الدول الضامنة الثلاث، بل قرار واشنطن أيضا، فهي سياسيا واستراتيجيا موجودة ليس فقط على جبهات شمال شرق سوريا بل في الجنوب والوسط كذلك.
مسألة خلط الأوراق مجددا في الملف السوري قد تظهر إلى العلن في أي لحظة مع العودة الأمريكية، متمثلة بتصريحات مستشار الأمن القومي جون بولتون؛ حول بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وأن جولة المبعوث الأمريكي الجديد الخاص بسوريا جيمس جيفري على تل أبيب وعمان وأنقرة وبحث العملية العسكرية المحتملة على إدلب لا يمكن فصلها عن الموقف الأمريكي الواضح الذي يسبق هذا التحرك؛ حول أن واشنطن سترد على أي اعتداء بأسلحة محظورة يقوم به النظام السوري في المدينة.
المحادثات السياسية والأمنية التي ستجري في العاصمة الإيرانية لا تهدف إلى إيجاد مخرج للأزمة في إدلب بقدر ما تهدف إلى حماية مصالح الدول الثلاث ونفوذها في سوريا، لكنها تتجاهل التطورات السياسية والأمنية المتلاحقة في المشهد السوري مع العودة الأمريكية السريعة والواسعة، وأن أي سيناريو توافقي ستطرحه لن تتمكن من تطبيقه بمفردها على ضوء فشلها في اختبارات التجارب السابقة، وستحتاج في النهاية إلى دعم إقليمي ودولي وأممي بما يراعي الكثير من الحسابات والمعادلات السورية والعربية والإقليمية.
وأن ما قيل العام المنصرم حول وجود صفقة تركية-إيرانية برعاية روسية في تسليم إدلب لأنقرة مقابل تقديم جنوب دمشق لطهران ليست بمثل هذه البساطة، بعد دخول العديد من العواصم العربية وواشنطن على خط الصفقة لرفضها وتعطيلها، وهذا ما فجر التوتر بين الدول الضامنة مجددا عشية قمة طهران المرتقبة.
أعلن وزير الخارجية التركي أكثر من مرة رفض بلاده نشر قوات إيرانية في إدلب، لكنه لم يرد يوما على ما قاله ممثل سوريا السفير بشار الجعفري الذي أعلن مرارا أن الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وإيران وتركيا لإقامة منطقة خفض العنف في إدلب "لا يشمل المجموعات المتطرفة التي رفضت وقف إطلاق النار، بما في ذلك الفصيل المرتبط بتنظيم القاعدة"، في إشارة منه إلى "هيئة تحرير الشام".
دمشق تريد تحريك قواتها نحو إدلب لكن هناك من يتحدث عن احتمال العودة إلى سيناريو قديم جديد في آخر لحظة؛ في إرسال قوات فصل ومراقبة جديدة إلى إدلب من الجمهوريات التركية بقيادة قوات كازاخية، وهو ما تحدث عنه الرئيس نور سلطان نازارباييف في منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي وبعد اجتماعات "الأستانة 6"، فهل هو مشروع قابل للطرح مجددا؟ وهل هذا ما ناقشه أردوغان مع مجموعة الجمهوريات التركية في إطار تفاهمات تركية روسية أخيرة؟ وهل ستقبل الدول الإقليمية بهذه الصيغة قبل حسم موضوع الجماعات المتشددة في المدينة؟
الواضح تماما هو أنه مهما صدر عن قمة طهران من قرارات وتوصيات فإنه دون تفاهم أمريكي روسي مباشر حول إدلب لن تحسم المسألة، فموسكو ستنقل لواشنطن نتائج اجتماعات طهران وواشنطن ستقول ما عندها بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين، وهي ستكون الفرصة الوحيدة لإخراج إدلب وربما سوريا من أزمتها.
الحل الأمثل هو جلوس الولايات المتحدة وروسيا إلى طاولة مفاوضات حقيقية، من أجل فتح المجال لحل سياسي عادل للقضية السورية برمتها وفق توصيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة، لأنها ستكون بضمانة أمريكية روسية تلزم الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين بها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة