إعلام جماعات العنف.. توظيف براجماتي وفوضى مهنية
دائما ما تسعى جماعات العنف إلى تأسيس آلة إعلامية تحقق بها مصالحها البراجماتية وتؤدى من خلالها دور متعدد الأهداف.
أوجد التطور المتنامي لوسائل الاتّصال سواء المقروءة والمسموعة والمرئية العديد من الأساليب المستحدثة بجانب التقليدية منها لجماعات العنف والتطرف الإرهابية بجميع تقاطعاتها ليس فقط في الترويج لأفكارها والدعاية والنشر لها، بل تجاوز ذلك إلى نشر الأكاذيب وتسويق العنف الاجتماعي ومحاولة رسم معالم الخطاب السائد لدى الرأي العام بهدف إسقاط الدول والأنظمة الوطنية؛ لتتحول هذه الوسائل مع الوقت إلى أداة قوية لتحقيق الأهداف البراجماتية لتلك الجماعات والاستحواذ على الوعي الجماعي للشعوب، وتمييع مصطلحات العنف الدموية كالإرهاب تحويلها إلى مجرد مفردات بلاغية تذوب في المفهوم العام للأصولية الدينية.
كما تعد مواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى وسائل الإعلام التقليدية أحد أهم الأدوات التي يستخدمها الإرهابيون نظرا لما تتيحه لهم من قدرة دائمة على التواصل مع الجميع وخاصة فئة الشباب لبث أفكارهم بطرق مدروسة وبشكل دقيق وإقناعهم بالفكر المتطرف المتشبع بالعنف والدموية ثم توظيفهم كعناصر فاعلة في تنفيذ عملياتهم الإرهابية، خاصة أن بيئة مواقع التواصل الاجتماعي جاذبة لتجنيد الإرهابيين مع صعوبة ملاحقة هؤلاء أو رصد تلك العمليات عبر الإنترنت.
وتتمثل خطورة هذه الأدوات الإعلامية في كونها توزع مقولات التكفير لكل من يخالفها عبر الهواء مباشرة مستفيدة من سهولة استخدامها والمشاركة فيها دون خبرات تقنية أو تكاليف مادية، بل وترخص لأتباعها القتل والتدمير وفق أفكارها ومعتقداتها وسياستها وأيديولوجيتها، الأمر الذي يخلق مغالطات وتشوهات شديدة لدى المتلقن العادي حول العديد من المفاهيم السياسية والاجتماعية كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتجاوز ذلك بتكوين صورة مشوهة عن الإسلام.
هذا التأثير الهائل يدفعنا إلى التساؤل والبحث حول كيفية تأسيس جماعات العنف والتطرف لهذه الآلة الإعلامية وكيف وظفت هذه الأدوات لخدمة مصالحها؟ وكيف استطاعت أن تخلق منها فوضى واسعة داخل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ وما الأهداف الاستراتيجية من هذا التوظيف والعوامل التي ساعدتها على التنامي؟ وما الطرق والوسائل الواجب اتخاذها لمواجهة هذا المشهد الفوضوي البعيد عن المهنية.
التأسيس البراجماتي لإعلام العنف
دائما ما تسعى جماعات العنف إلى تأسيس آلة إعلامية تحقق بها مصالحها البراجماتية وتؤدي من خلالها دورا متعدد الأهداف تستطيع من خلاله نشر أفكارها وممارسة عمليات التشكيك في برامج الأنظمة السياسية المتصارعة معها سواء داخل دوائر الحكم أو خارجه في محاولة لتقويضها والعودة للمشهد السياسي مرة أخرى كما في الحالة المصرية أو ابتزاز الخصوم كما هو واضح في الحالة التونسية.
وقد أطلقت ودعمت جماعة الإخوان فضائيات عدة عقب 25 يناير 2011 للترويج للجماعة وتثبيت مشروعها السلطوي، وعقب فشل هذا المشروع بعد ثورة الشعب المصري ضده في 30 يونيو عام 2013 أعادت إنتاج مشروعها الإعلامي في ثوب جديد من خلال عدة قنوات يتم بثها من تركيا وقطر لتعويض غيابها السياسي والشعبي.
كما شكلت قنوات "اليوتيوب" آلة إعلامية شديدة التعقيد للجماعات الإرهابية والمتطرفة، والتي شهدت تناميا كبيرا منذ عام 2013، وتركز هدفها على تجنيد الشباب داخلها من خلال والترويج لأفكارها وتقويض الثقة بين المواطن والدولة بالتشكيك الدائم في برامجها مستخدمة في ذلك تكنولوجيات وسائل الإعلام والاتصال وعبر تطبيقات عدة على رأسها "تليجرام" الذي يتيح لها السرية من المراقبة الأمنية، وهي دائما ما تستخدم مصطلحات جاذبة لنشر أفكار التطرف.
وبالنظر إلى التأسيس البراجماتي للآلة الإعلامية للجماعات المتطرفة نجد أنها تؤدي دورا وظيفيا لخدمة مصالح تلك الجماعات تحقق بها مصالحها، وتؤدي من خلالها دورا متعدد الأهداف تستطيع من خلاله نشر أفكارها وممارسة عمليات التشكيك في برامج الأنظمة السياسية المتصارعة معها سواء داخل دوائر الحكم أو خارجه في محاولة لتقويضها والعودة للمشهد مجدداً.
الأهداف الاستراتيجية للجماعات الإرهابية
تستهدف الجماعات الإرهابية عددا من العناصر الاستراتيجية التي تحاول من خلالها النفاذ إلى وعي الجماهير وتفكيك قناعاته نحو الدولة ونظامها السياسي بتوظيف الآلة الإعلامية في التشكيك في تفسيرها للإرهاب بل ومعالجتها له، بالإضافة إلى إحداث خلل في معالم خطاب الدولة السائد للرأي العام من أجل تحقيق الأهداف التالية:
1- إحداث خلل في الأثر النفسي لأحداث الإرهاب بخلق حالة من التعاطف معها وتصويرها على أنها رد فعل ضد الدولة وليست فعلا إرهابيا يستهدف إيلام المجتمع وتدمير مقدراته وتمهيده لحالة الفوضى اللامتناهية.
2- الحصول على الاعتراف الجماهيري بوجود شرعية لهذه الجماعات من خلال نسب المشاهدة التي تجذبها بالإثارة التي تستأثر بالمشاعر والترويج للأفكار والأخبار المغلوطة التي لا تتفق مع أدنى معايير القيم الخبرية.
3- تضخيم العمل الإرهابي ضد الدولة بتغطية إعلامية واسعة ومتكررة لإيهام المشاهد والمستمع والقارئ بأهمية غير حقيقة والإيحاء بخطورة غير واقعية.
4- إذكاء الفتن الطائفية والمذهبية وتكفير المجتمعات فهذا فسطاط الإيمان وذاك فسطاط الكفر وهؤلاء أحرار وهؤلاء عبيد بهدف تقسيم المجتمعات وإحداث خلل في النسيج الوطني الواحد.
5- فرض لغة ومصطلحات الجماعات المتطرفة لتصبح هي المتداولة في أحاديث الناس ومناقشاتهم ورفض مصطلحات الدول وأنظمتها الحاكمة كجزء من حرب نفسية طويلة المدى هدفها إفقاد هذه الأنظمة أي مصداقية أو تأثير في الرأي العام.
6- تقديم لقطات دعائيّة يستطيع التحايل بها على إعلام الدول المتصارع معها وتحويله إلى عنصر مساعد للآلة الإعلامية التابعة له بالترويج لأخباره التي تقدم جرعة مركزة من العنف الصادم المتوحش على أنه سبق خبري يجب عدم تجاهله.
7- تكرار الرسائل الإعلامية ذات الطابع الدموي لتعزيز دورها في صناعة إعلام مختلف وجديد يؤسس للعنف ويروج لمشاهد الذبح والحرق والقتل الجماعيّ، واعتماد خطاب القوّة والسلطة والترهيب وإثارة الرعب.
كيفية مواجهة الآلة الإعلامية لجماعات العنف؟
هناك العديد من الطرق والوسائل القادرة على تحقيق مواجهة ناجعة للآلة الإعلامية لجماعات العنف من خلال إبراز تناقضاتها والآثار السلبية لها على وعي الجمهور، والتركيز الاحترافيّ على مغزى رسائلها فيما يتعلق بتوجيه الرأي العام نحو التعاطف مع القضايا الإرهابيّة وتحويله إلى مجال خصب للتشكيك في الدولة وجدوى حربها عليه، ويمكن تحديد طرق وأساليب مواجهة الآلة الإعلامية لجماعات العنف فيما يلي:
1-التعامل مع الآلة الإعلامية لجماعات العنف وتغطيتها الإعلامية على أنها اعترافاً ضمنيا بدعم الإرهاب ومجموعاته الدموية بما تقدمه من مقابلات موثقة مع قادة جماعاته وشخصيات تدعم الأعمال الإرهابية ضد الدول بشكل صريح وواضح.
2- الرد على التغطية الإعلامية لهذه الآلة الإعلامية المتطرفة وكشف دوافعها أهدافها وتناقضها بشكل موضوعي ومهني وبعيد عن المبالغة والتهويل لتحقيق المصداقية والتميُّز.
3- تبني سياسة عامة إعلامية تركز في مضامينها وتوجهاتها على العناصر الاجتماعية والثقافية والنفسية وتحديداً الشباب منهم، لوقف تأثرهم بتلك الآلة الإعلامية المتطرفة.
4- التأكيد على أن هذه الآلة الإعلامية المتطرفة لا تقدم مضمون يهدف الى الحوار والسلم الأهلي وإنما هدفها التخريب ونشر الفوضى والعنف.
ختاما يمكن القول إنه من الضروري تكوين رؤية شاملة لمكافحة العنف والتطرف وإعطاء فرص متوازنة لوسائل الإعلام الرسمية والخاصة في التعامل مع الإرهاب وأسبابه وأدواته الإعلامية المتنوعة.
aXA6IDMuMTM1LjE4NC4xOTUg جزيرة ام اند امز