اليمين المتطرف في الغرب.. قبل وبعد داعش
يبدو أن المسألة تتحول من الثقافي والاجتماعي كحالة خوف على الهوية إلى منحنى جديد أكثر خطورة في مسار اليمين المتطرف بعد داعش.
صعود اليمين المتطرف وتياراته وذئابه المنفردة حقيقة لا يمكن إنكارها، وتهديد صارخ تدركه كل الحكومات الغربية والمراقبين في العالم، وهو التجلي الأبرز والنزوع الحاسم لأزمات وسياسات الهوية وتحدياتها في هذه المجتمعات، انطلاقا من الخوف عليها والدفاع عنها والعداء لآخريها على اختلافهم، خاصة مع توافر الظروف والسياقات التي مثّلت متنفسا للشعبوية الغاضبة، وما تنتجه من ممارسات الكراهية وعمليات العنف في آنٍ واحد.
لا يمكن الحديث عن صعود اليمين المتطرف دون الحديث عن سؤال الهوية المحتقن وأزماتها، وهو ما صار يسيطر ويشغل مختلف ممثلي الفكر الغربي في الغالب، فقد تحول بحث الراحل صامويل هانتيجتون (1927- 2008) في آخر عمره، من دائرة العلاقات الدولية وصراع الحضارات في سفره المعروف سنة 1996، إلى بحث سؤال الهوية في كتابه الأخير الذي صدر عام 2004، بعنوان: "من نحن؟ تحديات الهوية الأمريكية ?Who Are We" وكذلك تجاوز فرانسيس فوكوياما يوتوبية نهاية التاريخ، ليكون كتابه الأخير الصادر في أكتوبر سنة 2018 "الهوية: الطلب على الكرامة وسياسات الغضب"، وهو آخر ما كتب في أكتوبر سنة 2018، وليس أصل اليمين المتطرف إلا خوفا متزايدا على الهوية ودفاعا متطرفا عنها في وجه ما يتصوره أخطارا تواجهها، وهو شعور تكمن خطورته في أنه يبزغ وينتشر بعيدا عن المؤسسات الناظمة، التي تدرك خطر هذا الفكر منذ تجربتها المرة مع الحرب العظمى والنازي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
أسباب عديدة زادت من استنفار اليمين المتطرف ومساحات دعوته وانتشاره، وغدت خطرا يهدد مختلف المجتمعات الغربية، التي يثبت كثير من التقارير تصاعد خوفها منه في بعض المناطق أكثر من خوفها من الإرهاب والتطرف العنيف ذي الأصل الديني، وهو ما تم رصده في بريطانيا مثلا عقب حادث دهس المصلين في مسجد فنسبري في لندن في 19 يونيو سنة 2017، والذي راح ضحيته شخصان وعشرات الجرحى والمصابين، أو في مذبحة المسجدين في نيوزيلندا في مارس الماضي التي راح ضحيتها خمسون قتيلا، وخلال أربعة عشر حادثا آخر تجسد ظاهرة "الإسلاموفوبيا" حدثت في السنوات السبع الأخيرة حسب مرصد الإسلاموفوبيا.
واستجابة لهذا التحدي، أولت العديد من الحكومات في الغرب -شأن الحكومة الألمانية- الاهتمام بدراسة الظاهرة ومعالجتها، من أجل وضع سياسات واستراتيجيات وقائية والتعاطي مع أبعادها المختلفة؛ العنيفة والعملية والثقافية والاجتماعية، خاصة مع ما يمثله على بعضها من خطر كبير على أمنها القومي والداخلي.
اليمين المتطرف.. روافد متعددة
لا شك أن بداية اليمين المتطرف Far Right في الغرب تمتد لعقود طويلة، وإن ظهر التعبير والاصطلاح عام 1978، وكانت صحوته تتصاعد من آنٍ لآخر حسب السياقات والعوامل الفاعلة فيها والمثيرة لها، فقد تصاعدت حوادث الإسلاموفوبيا واليمين المتطرف، التي تكون النساء والأطفال والمسالمون ضحيته في الأغلب، بقوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، ولكن ليس رد الفعل على الإرهاب رافده الوحيد.
تصاعد اليمين عموما والمتطرف خصوصا مع ارتباط أزمة العيش بأزمة الهوية، عقب الأزمتين الاقتصادية والمالية والعقارية العالمية، وصار هدفه الرئيس الوقوف في وجه سياسات الديمقراطية الليبرالية ومواجهة موجات الهجرة واللجوء وتزايد معدلات البطالة، سواء في أوساط المجتمع عامة أو داخل الجاليات التي كانت تعاني البطالة نفسها، كما تعاني أجيالها من ازدواجية الهوية وأزمة الاندماج.
لكن لا شك أن مرحلة داعش وصحوة الإرهاب كانت فاصلا مهما وحاملا جديدا، في حياة وصحوة اليمين المتطرف وذئابه المنفردة في السنوات الأخيرة، فقد عادت الإسلاموفوبيا معها أكثر قوة وحضورا، كما كانت حجته العامية والسياسية للعنف المضاد ضد الجاليات المسلمة، وتصادمت الكراهية والكراهية المضادة على عكس المتوقع.
رغم تزامن داعش واليمين المتطرف فإن كليهما لم يكن متوقعا انبعاثه في لحظته الخاصة أو العالمية، فالطبيعي أن تنتج الأزمات الاقتصادية والمالية صحوة لليسار الديمقراطي، ولكن كان نتيجتها صعود اليمين المتطرف، كذلك بدلا من أن تخرج انتفاضات ما عرف بالربيع العربي سنة 2011 قوى ديمقراطية وتحولا ديمقراطيا، كان داعش أبرز مخرجاتها، لتخمد آماله وتصيب العالم بالرعب منه، ثم ظهرت دولتها وصولتها عامي 2014 و2015 وثارت عملياتها التي أوجعت العديد من المدن الأوروبية الكبرى، من باريس لبروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي.
وهكذا استغلت تيارات وأحزاب وخطاب اليمين المتطرف والشعبوية الراديكالية هذا الخطر المتصاعد في سباقاتها الانتخابية والشعبية الأوروبية والأمريكية طوال السنوات الأربع الأخير، وصعد بعضها لسدة الحكومات والسلطة في العديد من دوله، نزوعا قوميا - كما تجسّد في البريكست البريطاني- أو نزوعا انفصاليا كما تجلى في أحداث كتالونيا في إسبانيا، أو نزوعا كليا من أرضية عرقية أو دينية، يخشى موجات الأسلمة وتصاعد معدلات الهجرة واللجوء والإرهاب.
وبينما يتسم اليمين المتطرف العنيف في الأغلب بالعنصرية والإيمان بتميز العرق الأبيض، ويمارس العنف باسمه بعض الشباب البيض، إلا أن روافد هذا العنف والشخص العنيف تبدو أوسع من ذلك بكثير في مقدمتها الهوية وتميزاتها، ومنها الدين والاقتصاد والطبقة، والتعليم والوضع الاجتماعي، كما تختلف حالته بسياقات الدول وظروفها في الغرب نفسه والتوترات الثقافية فيه.
الاستبدال الكبير وتصاعد الإسلاموفوبيا
في معظم حالات الدول الأوروبية، كانت بداية توجهات اليمين المتطرف كعداء ضد الغرباء بشكل عام، ولكن بدأت تركز الآن على موضوع المهاجرين والعداء للمسلمين تحديدا، خاصة مع تصاعد معدلات المتحولين دينيا للإسلام، فضلا عن ازدياد موجات اللاجئين والمهاجرين من بؤر الصراع المشتعلة في الشرق الأوسط، وصراع الهوية الشكلي والعميق في المجتمعات الغربية، وتزايد أعداد المسلمين الواضح ما يهدد بالاستبدال الكبير لتكون أوروبا لغير أهلها، وهي المشاعر السلبية التي يزكيها المتطرفون في الجانبين.
وقد وجدت هذه المشاعر المتوترة فرصتها في العالم الحقيقي عبر عشرات الأحزاب والتيارات اليمينية في الولايات المتحدة وأوروبا، التي أخذت تنشط في أوروبا والولايات المتحدة بشكل واضح منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويبرز فيها جيل شاب ووسيط معروف بسلاطة لسانه وشدة نقده مثل يورغ هايدر في النمسا وعن جيانفرانكو فيني في إيطاليا وجان ماري لوبن في فرنسا، وريتشارد سبنسر الذي يتمثل هتلر في إشاراته وحركاته في الولايات المتحدة ويتزعم معهد السياسات القومية بها.
كما حملها العالم الافتراضي وانتشر بها، وتواصلت شبكاته وأفراده عبره وتبادلوا الخبرات خلاله، فيما يشبه الذئاب المنفردة الداعشية، وقد أعلن فيسبوك عقب مجزرة المسجدين النيوزيلندية معتذرا عن عدم منعه بث الفيديو المباشر الذي وثق الإرهابي المسيحي الأسترالي "برينتون تارانت" فيه هجومه على المسجدين في نيوزيلندا في مارس الماضي، وذكر مسؤولوه أن هناك 200 منظمة عنصرية على مستوى العالم تؤمن بتميز العرق الأبيض وأنه يعمل على إزالة ما تنشره تلك المنظمات عبر تكنولوجيا الرصد الآلي.
وتلهم هذه الرموز والقضايا والأزمات لهيب الشباب الغربي وتوجهه نحو اليمين المتطرف، فقد تحول إرهابه لحالة أكثر منه تنظيما يمكن تقمصها، وهي الخوف نفسه الذي يخشاه الغرب سواء من الخلايا النائمة أو الذئاب المنفردة أو العائدين الجدد من داعش لديه، وينتهج كلا الإرهابين أسلوب "الذئاب المنفردة" في تنفيذ العمليات الإجرامية، ويتضح ذلك في أسلوب منفذ مذبحة المسجدين في نيوزيلندا، كما تؤكده هجمات اليمين المتطرف خلال الثلاثين عاما الماضية، التي ينفذها أفراد في الغالب وليس تنظيمات.
الإسلاموفوبيا.. بين الخفوت والعودة
لقد خفتت موجات الإسلاموفوبيا، وهي حالة ثقافية لها تمظهرها السياسي، قليلا حتى عام 2011 ولكنها عادت للظهور بقوة مع موجات اللجوء والهجرة ثم مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي وصحوة الجهادية المعولمة الوحشية أكثر من القاعدة، وعملياتها الكبيرة في استاد باريس في 13 نوفمبر سنة 2015 أو بروكسل أو لندن أو غيرها.. لتتحول من مجرد خوف أو توجس من الإسلام الذي تمثله هذه الجماعات، أي مجرد خوف على الهوية، لحالة التطرف العنيف الذي ينتهج الثأرية والعنف المضاد العشوائي والذي يستلهم كل رموز وتراثات العداء من الحروب الصليبية إلى شارل مارتل وغزو المسلمين لفرنسا في القرن الثاني الهجري إلى العمليات الإرهابية الانتقامية الشبيهة التي نفذها إرهابيون آخرون.
يبدو أن المسألة تتحول من الثقافي والاجتماعي كحالة خوف على الهوية إلى منحنى جديد أكثر خطورة في مسار اليمين المتطرف بعد داعش، حيث صارت لديه عدمية عدوانية وعشوائية، قد تفاجئ الناس بالموت في أي مكان وأي وقت، عقب ذئابه المنفردة، وليس مجرد تيار سياسي يسعى للحكم أو المشاركة فيه، هنا أو هناك، أو يمارس حضوره عبر أشكال التمييز والكراهية والعزل العادية، ولكن صار مخزونه ونزوعه انتقاميا ويتسع فرديا بعيدا عن التنظيمات، ويستلهم من مختلف المتعاطفين مع أفكاره، سواء كانوا ساسة كبارا أو إرهابيين مماثلين لا ينتمون ولا يؤمنون بالسياسة أصلا في تنفيذ أهدافهم في تطهير هويتهم وخلاص شعوبهم وفوبيا الاستبدال الكبير الذي يمثل لهم خطرا وتهديدا كبيرا ديمغرافيا وثقافيا، ولكن أيضا وهنا الخطر تصور المسلمين كلهم دواعش يمثلون عدوا تاريخيا لا يزال الصراع معه مستمرا، وهذا ما كشفته بالخصوص حادثة المسجدين الأخيرة في نيوزيلندا وما كتبه منفذها من تبريرات واستلهامات تاريخية ومعاصرة.