جبل مرة يبتلع قريته الوادعة.. ترسين بلا أثر (خاص)

ضجّت منصات التواصل الاجتماعي في السودان خلال الأيام الماضية بأخبار كارثة طبيعية، بعدما اختفت قرية كاملة تُدعى "ترسين"، تقع في جبل مرة بوسط دارفور غربي السودان.
إثر انزلاقات أرضية عنيفة أعقبت أمطاراً غزيرة يومي الأحد والاثنين (31 أغسطس/آب – 1 سبتمبر/أيلول)، أسفرت عن مصرع جميع سكان القرية البالغ عددهم نحو ألف شخص، بحسب ما أكده صحفيون محليون والسلطات المدنية التابعة لحركة جيش تحرير السودان المسيطر على المنطقة.
صدمة الفاجعة
الكاتب الصحفي السوداني المتخصص في شؤون دارفور، موسى جودة، رئيس تحرير موقع "أفريكان مترس"، أوضح لـ"العين الإخبارية" أنه تلقى صباح الاثنين اتصالاً من أحد أقاربه المقيمين في منطقة "نيرتيتي" القريبة من جبل مرة، يخبره بأن الأرض ابتلعت قرية ترسين بالكامل، وأن صرخات سكانها اختفت بين الصخور والانهيارات. وأضاف جودة أنه استقصى الأمر من سكان محليين في القرى المجاورة، فجاءت الروايات متطابقة: القرية الصغيرة التي لم تكن تضم أكثر من ألف نسمة، طُمرت بالكامل تحت الأرض.
قرية زراعية هادئة
كانت "ترسين" قرية وديعة تقع على جنبات جبل مرة، يقطنها في الغالب أفراد من قبيلة الفور الذين امتهنوا زراعة بساتين الموالح والفواكه. اشتهرت القرية بجمال طبيعتها وهدوئها، حيث تتدفق الشلالات من أعالي الجبل لتروي الحقول وتمنح الأراضي خصوبة نادرة، بينما يعيش السكان حياة بسيطة بعيدة عن ضجيج النزاعات التي تحاصر دارفور منذ سنوات طويلة.
ورغم غزارة الأمطار التي تهطل باستمرار على المنطقة، ظل السكان يعتقدون أن طبيعة الجبل البركانية الصلبة تمنحهم حصانة طبيعية، وأن رسوخ جبل مرة في التاريخ يحميهم من الأخطار. وقد ساعدت تضاريسه الوعرة على مدار عقود في تحصينهم من أي هجمات مسلحة، إذ كانت المنطقة تُعتبر ملاذاً آمناً تحت سيطرة حركة عبد الواحد محمد نور أو ما يسمى بجيش تحرير السودان ، وتُعرف بين الأهالي بأنها "أراضٍ محررة".
لحظة الانهيار
بحسب شهادات نقلها جودة، بدأت الانزلاقات الأرضية مع فجر الأحد. ومع تزايد التهدم حاول سكان القرية إجلاء النساء والأطفال نحو المرتفعات، لكن سرعة الانهيارات لم تمنحهم فرصة للنجاة، فانطمرت القرية خلال ساعات. وأوضح الشهود أن صرخات السكان تلاشت شيئاً فشيئاً مع ابتلاع الأرض لهم.
وذكر جودة أن رجلاً واحداً فقط نجا بعدما تشبث بجذع شجرة كبيرة حال دون سقوطه في الهاوية، وتم إنقاذه لاحقاً، لكنه لا يزال في حالة صحية ونفسية صعبة وغير قادر على الحديث عن تفاصيل ما عاشه.
استغاثة عاجلة
فور وقوع الكارثة، تحركت السلطات المدنية التابعة لحركة جيش تحرير السودان في جبل مرة، وأطلقت اتصالات عاجلة بمنظمات الأمم المتحدة لطلب المساعدة في انتشال الجثث. وأوضحت أن حجم الانهيارات ووعورة التضاريس يجعل عمليات الإنقاذ شديدة التعقيد، خصوصاً مع استمرار تدفق المياه والسيول في المنطقة.
بيان الحركة
في بيان رسمي، أكدت حركة جيش تحرير السودان في جبل مرة أن أكثر من ألف شخص لقوا مصرعهم في قرية ترسين بدائرة "أمو" في إقليم دارفور، إثر الانزلاقات الأرضية التي محَت القرية بالكامل من الخريطة. وأشارت إلى أن الناجي الوحيد لا يكفي لتغيير حقيقة أن الكارثة أبادت سكان القرية جميعاً. كما شددت على أن المنطقة كانت واحدة من أشهر مناطق جبل مرة لإنتاج الموالح.
ودعت الحركة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية إلى التدخل العاجل لتقديم الدعم وانتشال الجثامين وتخفيف آثار الكارثة، مؤكدة أن الجهود المحلية وحدها غير كافية أمام حجم الدمار. كما عبّرت عن تعازيها العميقة لأسر الضحايا.
جبل مرة.. طبيعة معقدة
يقع جبل مرة في ولاية وسط دارفور بارتفاع يصل إلى 3,000 متر فوق سطح البحر، ويمتد على مساحة 12,800 كيلومتر مربع، من مدينة كاس جنوباً حتى أطراف الفاشر شمالاً. يتميز الجبل بقممه البركانية وشلالاته وبحيراته التي تمنحه مناخاً شبيهاً بمناخ البحر الأبيض المتوسط، حيث تهطل الأمطار على مدار العام، ما يسمح بزراعة محاصيل متنوعة مثل الموالح والتفاح والذرة والدخن.
ورغم هذه المزايا الطبيعية، تشكّل تضاريسه الانحدارية خطراً دائماً، إذ سبق أن شهدت المنطقة حوادث انزلاقات أرضية أقل تدميراً في الماضي، لكن كارثة ترسين تعد الأشد قسوة في تاريخها.
مأساة مضاعفة
تزامنت الكارثة مع ظروف إنسانية صعبة يعيشها إقليم دارفور نتيجة الحرب المستمرة منذ عامين بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي تسببت في نزوح ملايين الأشخاص وخلقت أزمة غذائية خانقة. كثير من النازحين لجأوا إلى جبل مرة بحثاً عن الأمان، إلا أن الطبيعة هذه المرة وجهت ضربتها القاسية.
من جانبه، وصف حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي ما جرى بأنه مأساة إنسانية تتجاوز حدود الإقليم، محذراً من أن غياب المساعدات سيضاعف حجم المعاناة.
وبينما لا تزال جهود الإنقاذ في بداياتها، يظل جبل مرة شاهداً على واحدة من أعنف الكوارث الطبيعية التي عرفها السودان في تاريخه الحديث، بعد أن ابتلع الأرض قرية بكاملها وأغلق خلفها أبواب النجاة.