لم تعد حرب الإخوان في السودان تقف عند حدود الجغرافيا، بل تجاوزتها إلى فضاءٍ أخطر: فضاء الأسافير.
هناك تُدار المعارك بالتضليل وفبركة الكلمة والصوت والصورة، عبر جيوش من اللجان الإلكترونية التي يشرف عليها الجيش وحلفاؤه من جماعة الإخوان المسلمين، الذين يسيطرون على قراره ويُعرفون شعبيًّا بـ "الكيزان". هؤلاء يديرون آلة دعائية تتغذّى على الوهم والكذب، وتبث خطابًا يخلط بين الخرافة والواقع ليصنع صورة مقلوبة للأحداث!
في الأسبوع الأول من الشهر المنصرم، ضجّت منصات التواصل الاجتماعي والمواقع السودانية بسيل من المقاطع المصوّرة التي حملت عناوين مثيرة، على شاكلة: "انتهاكات الدعم السريع”، "شاهدوا مرتزقة كولومبيا في دارفور”، وحتى: "الإمارات تقتل السودانيين”.
كان توزيعها دؤوبًا ومصمَّمًا بعناية لإشعال المشاعر وتأجيج الكراهية. وسرعان ما انتشرت بين عامة الناس، لتجد طريقها إلى التداول على نطاق واسع، كأنها حقائق دامغة!
وما هي إلا أيام حتى هبّ الجيش، ممثَّلًا في سلطة الأمر الواقع التي أسّسها في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، معيدًا تدوير ضلاله الذي ردّ إليه، بما يثير الأسى والسخرية معًا. إذ خرج كامل إدريس، الذي يتبوأ منصب رئيس السلطة، في خطاب أقرب إلى مسرحية هزلية؛ خطاب أقل ما يُقال عنه إنه همجي يفتقر إلى الذوق والحس الإنساني، فضلًا عن أبجديات الدبلوماسية والعلاقات الدولية.
ظهر الرجل في خطاب تلفزيوني موجّهًا حديثه، لا إلى حكومة كولومبيا، بل إلى "الشعب الكولومبي" مباشرة، متلعثمًا بلغة ادّعى أنها إسبانية، طالبًا من الكولومبيين أن يمنعوا أبناءهم من القتال كمرتزقة في دارفور!
في تلك اللحظة، بدا وكأننا أمام "تيك توكر" سطحي يهرف بما لا يعرف، لا أمام رئيس وزراء سلطة، غافل عن خطورة ما يتفوّه به، متحدثًا بإساءة مضاعفة ليس بعدها إساءة.
كان المشهد بالغ الغرابة والسذاجة، وذروة في الضحالة والابتذال، السياسي كما الشخصي، ونموذجًا باهرًا على كيف يمكن أن تُدار سلطة - أي سلطة - يقف خلفها العسكر والإخوان؛ إذ أوحى خطابه وكأن الشعب الكولومبي بأسره مجموعة من المرتزقة يقفون على أهبة الاستعداد للقتال في السودان!
لكن، كما في كثير من حملات التضليل، سرعان ما يتكشّف زيفها أمام نور الحقيقة الساطع. فقد نشرت وكالة الأنباء العالمية المرموقة (رويترز)، الجمعة الماضية، تقريرًا أصدره فريق التحقّق التابع لها، أكّد أن هذه المقاطع لا تمت بصلة إلى السودان، ولا علاقة لها بدارفور أو كولومبيا أو الإمارات. بل إنها لقطات صُوِّرت في الرابع والعشرين من يوليو الماضي في جمهورية إستونيا، أثناء تدريبات عسكرية مشتركة لوحدات من جيشها مع وحدات من الجيش الأميركي والبريطاني والكندي، ونُشرت أصلًا على الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأميركية.
هكذا، تهاوت القصة الملفَّقة، وتحوّل "المرتزقة الكولومبيون" إلى مجرد أشباح وُلدت من رحم الدعاية الإخوانية العسكرية، وإذا بنا أمام فضيحة مدوّية.
ولعل المفارقة أن رويترز قالت إنها أرسلت استفساراتها إلى وزارتي الخارجية في كلٍّ من السودان وكولومبيا فلم تتلقَّ أي رد، فيما جاء التعليق الوحيد من الخارجية الإماراتية التي ردّت قائلة إن هذه الادعاءات؛ "جزء من نهج مقصود ظل يُمارَس منذ اندلاع الحرب في السودان للتهرّب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين".
هذه الواقعة تختصر جوهر ما يعيشه السودان اليوم: حرب وحشية مزدوجة، يديرها العسكر/الكيزان على الأرض، وأخرى في الفضاء العام حيث تُختطف الحقيقة وتُستبدل بخطاب مفبرك. فالجيش والإخوان يستميتون في نشر الأكاذيب واستخدام أدوات التضليل منذ بداية الحرب لإنتاج رواية مزوّرة تبرّر حربهم التي أشعلوها من أجل العودة مرة أخرى إلى السلطة. يصوّرون بها خصومهم الداخليين كشياطين، بينما يلقون بالمسؤولية على أطراف خارجية، في محاولة مفضوحة ويائسة لتبرئة أنفسهم من وزر الحرب.
إن المأساة في السودان لم تعد محصورة في ميادين القتال وحدها، بل امتدت إلى فضاء الوعي العام، حيث تُستباح الحقيقة يوميًّا. وبينما يواجه المواطنون الموت والجوع والنزوح، تُغرقهم هذه الحملات بسيول من الأكاذيب. غير أن الحقيقة، كما أثبت تقرير (رويترز)، قادرة على أن تكشف زيف البروباغندا مهما طال عمرها.
والحقيقة التي أثبتتها التجارب المعاصرة تقول: حيثما وُجد (الإخوان)، وُجد القتل والدم والقمع والفساد والأكاذيب والفبركة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة