نزاع الناصرية و"الإخوان المسلمين" ربما كان أكبر نزاعات القرن العشرين، مسرحُه امتد من مصر إلى العالم العربي.
كثيرون سمّوا القرن العشرين “قرن الأيديولوجيات”: فيه تصارعت الديمقراطية مع الفاشية والشيوعية، كما تصارعت الفاشية والشيوعية. الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانتا، أيضا، حربين أيديولوجيتين.
كتاب الأكاديمي فواز جرجس “صنع العالم العربي” يخبرنا بأن القرن العشرين العربي لم يكن كذلك. نزاع الناصرية و”الإخوان المسلمين” ربما كان أكبر نزاعات ذلك القرن. مسرحُه امتد من مصر إلى العالم العربي. مع هذا، ينجح جرجس في إقناعنا بأن الصراع على السلطة، لا الأيديولوجيا، كان محركه الأساسي.
الأفكار بذاتها لا تستحق الجهد. إنها للسلوى في الوقت الضائع. هذا يفسر أمورا كثيرة منها أن الجميع واحدٌ أمام ما يسمونه تحديات مصيرية. لقد أفرطوا في تأسيس “الجبهات” المسماة تقدمية ووطنية وعربية وإسلامية وذات عباءات فضفاضة كثيرة تحمي الأنظمة الأمنية.
فعبدالناصر وسيد قطب لم يكونا على قطيعة أيديولوجية مبرمة. في قومية الأول شيء من الدين، وفي تدين الثاني شيء من القومية. عبدالناصر أكد أن اشتراكيته مصدرها الإسلام، ولم يتردد “إخواني” سوري، هو مصطفى السباعي، في إصدار كتاب سماه “اشتراكية الإسلام”. الأهم أن عبدالناصر الشاب انتسب، بين ما انتسب إليه، إلى “الجهاز الخاص” (الإخواني)، في حين لم يكن قطب الشاب بعيدا عن الوطنية المصرية.
الضباط “الإخوانيون” شاركوا في ثورة 1952، ثم أعفي تنظيمهم من المنع الذي طال الأحزاب. عبدالناصر أراد استخدامهم لتوطيد سلطته، وهم أرادوا استخدامه لإنشاء سلطتهم.
ثم إن الطرفين معنيان أساسا بمكافحة “الاستعمار” على تعدد تسمياته. هما أيضا متشابهان في تكوينهما الاجتماعي، ومن طبيعة سلطوية تقضي بطاعة المأمور للآمر. وهما، بتفاوت في النسب، مع قضم الدولة للمجتمع، إما لاقتصاده وإما لتربيته وإما للاثنين.
تنبهنا تلك التجربة إلى مساحة التقاطع بين أطراف متنازعة سياسيا يُفترض أنها كلها أيديولوجية. حيال هذا التقاطع يضمر التعويل على خلافات عميقة وفلسفية.
بين عبدالناصر والبعث شيء مشابه: البعثيون قالوا: وحدة، حرية، اشتراكية. الناصريون قالوا: حرية، اشتراكية، وحدة. الاثنان جعلا محاربة “الاستعمار” و”تحرير فلسطين” هدفين إلى جانب الثالوث المذكور. ليس هذا فحسب: البعثيون، في الخمسينيات، كانوا طليعة الداعين إلى اندماج سوريا ومصر الناصرية. في الستينيات، وقبل توطيد سلطتهم، فاوضوا الزعيم المصري لإقامة وحدة ثلاثية بين بلاده والعراق وسوريا التي كانوا يحكمونهما.
بين البعثين السوري والعراقي شيء مشابه. الحزبان حزب واحد أصلا. خلافهما لم يفجر أي قضية من تلك التي فجرها نزاع الشيوعيين الصينيين والسوفيات، كطبيعة الحرب مع “الإمبريالية” أو الطريق البرلمانية إلى الاشتراكية... في 1978، ورغم كل شيء، أصدرا “ميثاق العمل القومي” الذي وُصف بأنه “خطوة على طريق وحدة القطرين”.
طبعا، كانت السلطة ما خرب علاقة عبدالناصر و”الإخوان”، والناصريين والبعثيين، وبعثَي سوريا والعراق. لكنْ أيضا يصح الأمر نفسه، ولو بتعقيد أكبر، في علاقة القوميين بالشيوعيين. التعقيد هذا ذو مصدرين: دور السوفيات المؤثر في مواقف الشيوعيين، ما أضاف عنصرا خارجيا إلى اللوحة الداخلية، وأخْذُ الشيوعيين بأيديولوجيا هي الأخرى خارجية، رآها عرب كثيرون أكثر راديكالية مما يحتملونه، أكان بالنسبة للدين أو للمُلكية.
العاملان رفعا الخلاف حول فلسطين، ولا سيما تقسيم 1947، إلى سوية جدية. ما عدا ذلك، بدت الأمور أسلس. التقارب اللاحق بين موسكو والتيارات القومية حول معظم الخلافات إلى ماضٍ ميت: وحدة 1958 المصرية-السورية وعهد عبدالكريم قاسم في العراق ومعاملة الأنظمة القومية للشيوعيين... هذه كلها لم تحلْ دون الالتحاق الشيوعي بالأنظمة القومية الأمنية. وبعد كل حساب: القوميون يقولون بالوحدة، والشيوعيون بالاتحاد.
أما الأنظمة التي اضطهدتهم فيقف على رأسها مَن يسمونهم قادة وطنيين: عبدالناصر، جعفر نميري، صدام حسين.. بعضهم شاركوهم انقلاباتهم. بعضهم انضووا في “جبهاتهم الوطنية والتقدمية”. حتى في فلسطين لاحقا، داورَ الشيوعيون دخول حلبة العمل الفدائي عبر تنظيم “الأنصار”.
أما بالنسبة للاشتراكية؛ ففي أواسط الستينيات، بدأ عبدالناصر “يتطور نحو الاشتراكية العلمية”. البعث، بعد المؤتمر القومي السادس أواخر 1963، بات بعضه يقول بـ”العلمية” نفسها. ارتفعت هذه النبرة خلال عهد جديد - الأتاسي في 1966 - 1970. حتى تابعوا ميشال عفلق لم يعودوا يعارضون هذه “المصالحة التاريخية”. المنظر العفلقي إلياس فرح تولى المهمة. حركة القوميين العرب انتقلت، بدورها، من خلطة ناصرية -فاشية إلى ماركسية- لينينية ما. موسكو، من جهتها، تبرعت للقاهرة بفتوى “الطريق اللارأسمالية إلى الاشتراكية”.
الأحزاب الشيوعية العربية بدأت، منذ أواخر الستينيات، تُكثر التمييز بين “القوميات المضطهَدة” و”القوميات المضطهِدة”. المؤتمر الثاني للحزب اللبناني عام 1968 أتم “المصالحة” مع العروبة. القطب الشيوعي السوري رياض الترك بالغ في الرقة القومية. صلوات الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب في مساجد الخرطوم باتت تعميما كلاميا في بيئات الشيوعيين العرب. حتى القوميون السوريون صاروا بقدرة قادر “يساريين”، “يصالحون” ماركس وأنطون سعادة، والأخير والقومية العربية وإسلام “حزب الله”.
الأفكار بذاتها لا تستحق الجهد. إنها للسلوى في الوقت الضائع. هذا يفسر أمورا كثيرة منها أن الجميع واحدٌ أمام ما يسمونه تحديات مصيرية. لقد أفرطوا في تأسيس “الجبهات” المسماة تقدمية ووطنية وعربية وإسلامية وذات عباءات فضفاضة كثيرة تحمي الأنظمة الأمنية. هذا يفسر أيضا كيف أن بشار الأسد والإسلاميين، ممن تربطهم خصومة في السياسة، يجمعهم ما هو أعمق من السياسة.
إن الدم، في هذا كله، كثير فيما المعنى قليل جدا.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة