انتعاش الإرهاب.. كيف غير انسحاب فرنسا معادلة الأمن في الساحل الأفريقي؟
في قلب الساحل الأفريقي الممزّق بين جغرافيا شاسعة ودول منهكة، يتقاطع انهيار النفوذ الفرنسي مع صعود مرتزقة روسي، لتجد المنطقة نفسها أمام فراغٍ أمني.
فبعد ثلاث سنوات على خروج آخر جندي فرنسي من مالي، لم تنجح الوعود الروسية في وقف تمدد الإرهاب ولا في إعادة بناء الدولة، ومع اشتداد قبضة الجماعات الإرهابية وتراجع سلطة الحكومات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يجد الساحل نفسه أمام لحظة مفصلية تعيد تعريف موازين القوة.
فالإرهاب يحاصر العواصم، والمرتزقة يمدّون جذورهم في قلب الموارد، والدول الغربية تنسحب ثم تعود بخطابٍ مرتبك بين المصالح والهواجس.
فأين يقف الساحل الأفريقي؟
يقول الدكتور أكاري سامبي، المدير الإقليمي لمعهد "تبمكتو" والأستاذ في جامعة جاستون-برجر في السنغال في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن تواجد "فيلق أفريقيا" (الذراع الجديد للمرتزقة الروس بعد فاغنر) في الساحل لا يهدف فقط إلى تأمين المناطق، بل -أيضًا- إلى ضمان نفوذ اقتصادي طويل الأمد لروسيا من خلال حماية نظم الحكم العسكري واستغلال الموارد.
وحذر من أن هذا التمركز الروسي قد يضعف سيادة دول الساحل، إذ إن الحمايات الأمنية التي يقدمها المرتزقة تأتي مع ثمن سياسي ومادي كبير، وقد تغدو بلدان المنطقة رهينة لمصالح موسكو عبر عقود.
سامبي أضاف أن المقاربة الأمنية الخشنة المعتمدة من قبل الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تعمّق أسباب التطرّف بدل معالجتها، مشيرًا إلى أن غياب التنمية، وتهميش المجتمعات المحلية، وتآكل الثقة بين الدولة والمواطنين، كلها عوامل تخلق بيئة خصبة لتجنيد الشباب من قبل الجماعات الإرهابية.
واعتبر أن الحل لا يمكن أن يكون عسكرياً صرفاً، بل يجب أن يرتكز على:
- إعادة بناء المؤسسات
- تعزيز الحكم الرشيد
- إطلاق مشاريع اقتصادية واجتماعية حقيقية تعيد للدولة حضورها الشرعي
- إبعاد النفوذ الأجنبي
ومنذ سبتمبر/أيلول الماضي، تشهد مالي تصاعداً مقلقاً في أعمال العنف، حيث باتت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المرتبطة بتنظيم القاعدة تطوق العاصمة باماكو عبر فرض حصار على إمدادات الوقود.
وأمام هذا التدهور الأمني، استدعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أفراد طواقمهما غير الأساسيين في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما أوصت عدة سفارات، بينها السفارة الفرنسية، رعاياها بمغادرة البلاد.
وبشكل متدرج، تحولت منطقة الساحل إلى بؤرة الإرهاب العالمية، ففي عام 2024، سجل أكثر من نصف ضحايا الإرهاب في العالم في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، ولاسيما في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي. وتُنسب غالبية هذه الهجمات إلى جماعات مرتبطة بتنظيمي «داعش» والقاعدة.
روسيا.. درع هش
في بوركينا فاسو، التي تعد الأكثر تضرراً، يعكس المشهد الوضع المالي ذاته تقريباً، فالنظام الحاكم بقيادة إبراهيم تراوري، الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري في سبتمبر/أيلول 2022، لا يسيطر سوى على أقل من نصف أراضي البلاد، فيما تفرض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نفوذها على باقي المناطق. وقد اتجهت واغادوغو بدورها نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا.
ويحض الرئيس البوركينابي نظراءه الأفارقة على «التوقف عن التصرف كدمى كلما حرّك الإمبرياليون خيوطهم»، في خطاب سيادي لا يخفي في الواقع خطر استبدال نفوذ بآخر.
أما المرتزقة الروس، الذين كانوا سابقاً تحت مظلة مجموعة «فاغنر» ثم انتقلوا إلى كيانها البديل «أفريكا كور»، فيوسعون نطاق نفوذهم في دول الساحل، رغم الاتهامات الموجهة إليهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وفي مالي، لا يبدو هؤلاء المتعاقدون العسكريون ميالين للتدخل بفعالية لفك الحصار عن العاصمة، بل يركزون بشكل أساسي على حماية مناجم الذهب.
وخلال السنوات الأخيرة، ابتعدت مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا، وبلغت هذه الدول، التي تحكمها أنظمة عسكرية، ذروة الانعزال بخروجها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في يناير/كانون الثاني الماضي.
هذا الواقع يثير قلقاً متزايداً لدى دول الجوار، مثل بنين وساحل العاج والسنغال وتوغو وغانا، التي تخشى زحف التطرف نحو الجنوب.
دعم استخباراتي
ووفقاً لصحيفة «فايننشال تايمز»، يتعين على الغرب تقديم دعم استخباراتي وتدريبي وتعزيز التعاون العسكري بناءً على طلب هذه الدول. ورغم أن أوروبا أظهرت فتوراً واضحاً تجاه منطقة الساحل، فإنها لا تستطيع تجاهلها طويلاً، نظراً لما قد يمثله عدم الاستقرار فيها من تهديد يتجاوز حدود القارة الأفريقية.
كما يطرح خيار آخر يتمثل في زيادة حجم رأس المال الاستثماري المخصص لإعادة الإعمار والتنمية في دول الساحل، عبر البنك المركزي الأوروبي، إذ يبقى توفير فرص العمل السدّ الحقيقي في وجه التطرف.
وتختتم «فايننشال تايمز» تقريرها، قائلة إن الحل المستدام الوحيد لمواجهة الإرهاب والتدخل الروسي يكمن في بناء حكومات قوية ومستقرة، وهو تحدٍ يقع بالدرجة الأولى على عاتق الدول المعنية نفسها، غير أن الدول الغربية، إذا أرادت تعزيز الاستقرار المحلي، فإن من مصلحتها المباشرة الاستثمار في هذا المسار.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTM5IA== جزيرة ام اند امز