على مشارف موجة رابعة من متحورات فيروس كورونا، يدخل العالم مرحلة جديدة مقلقة من التساؤلات، ومن غير مقدرة حقيقية على معرفة السر الكامن وراء تلك الجائحة المخيفة.
والشاهد أنه ليس ها هنا مقام التساؤل الجنائي عن سر كوفيد -19، وأغلب الظن أنه لن يعرف في المدى المنظور، فيما الذي يهمنا بنوع خاص هو البحث في ملامح ومعالم عالم ما بعد كوفيد، على الأصعدة كافة، أنثروبولوجيا وسيسيولوجيا، اقتصاديا وعسكريا، وهو ما قد يتسع عرضه على المسطح المتاح للكتابة، ولهذا يعن لنا أن نتوقف مع رؤيتين مهمتين، ونشاغب الأفكار التي جاءت ضمنهما، تلك التي تحاول جاهدة استشراف الغد ما بعد الكوروني، إن جاز التعبير.
في أحدث مؤلفاته الذي يحمل اسم "عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء"، يتساءل فريد زكريا، الصحافي والباحث السياسي، المؤلف الأمريكي الجنسية الهندي الأصل، عن شكل العالم الآتي، وهل فيروس كوفيد-19 سوف يسرع التاريخ حقا؟
عبر عشرة دورس ضمّنها كتابه الواقع في نحو 300 صفحة من القطع الصغير، نرى بصمات واضحة للفيروس المرعب على عالمنا المعاصر من بابه إلى محرابه، ما يستدعي مقولة "لينين": "هناك عقود لا يحدث فيها شيء وأسابيع يحدث فيها ما يوازي العقود".
في البداية يضعنا "زكريا" أمام مفارقة لا بد لها أن تحكم رؤيتنا لعالم الغد، بعدما ثبت إخفاقنا كأسرة بشرية في عالم اليوم.. كيف ذلك؟
يلفت صاحب برنامج "جي بي إس" الشهير على شبكة "سي إن إن" إلى أن العلماء، عسكريين وبيولوجيين واقتصاديين، في العقود الأخيرة، قد أجادوا تخيل المخاطر الكبيرة والتقليدية التي تواجهها الإنسانية، مهما كانت غير محتملة، مثل الهجمات العسكرية والغزوات، والتخطيط لاستجابات متعددة واسعة النطاق لها، فالحكومات تنفق تريليونات الدولارات لبناء جيوش ضخمة، وتتبع حركة الجيوش عبر الكوكب، وتجري المناورات الحربية ضد الأعداء المحتملين، وتخصص الولايات المتحدة وحدها قرابة ثلاثة أرباع تريليون دولار لميزانيتها الدفاعية كل عام.
ومع ذلك لم نكتشف أننا لم نكن مستعدين للدفاع ضد فيروس صغير، وقد يكتشف فيما بعد أن هذا الجسيم الفيروسي تسبب بأكبر ضرر اقتصادي وسياسي واجتماعي للبشرية منذ الحرب العالمية الثانية.
في العالم الما بعد كوروني، هناك حاجة كذلك إلى إعادة ترتيب الهرم الهيراركي للاحتياجات الإنسانية، لا سيما أن تيار العولمة قد تسبب في ارتباك واضح في تراتبية الأهمية الوظيفية.
في الأشهر القليلة الأولى لانتشار الفيروس، تحدثت عالمة ميكروبولوجي أوروبية، مشيرة إلى الخلل الهيكلي في اهتمامات البشر، فالعالم يولي أحد لاعبي كرة القدم اهتماما فائق الوصف ويغدق عليه ملايين اليوروهات سنويا، في حين راتبها لا يتجاوز ألفي يورو، وعليه في عالم ما بعد كورونا، من سيكون الأولى بالتقدير الأدبي والمالي، العلماء الذين وضع على عاتقهم استنقاذ العالم، أم اللاعبين الذين يدورون في فلك البراجماتية غير المستنيرة؟
ينقسم العالم في وقتنا الراهن حول عواقب الوباء، وهل ستكون لحظة مفصلية في التاريخ الحديث، لحظة تغير مساره إلى الأبد، أم أن الخليقة ستعاود من جديد عملها كالمعتاد كأن شيئا لم يحدث، ما يعني أن أديب نوبل الكبير، نجيب محفوظ، قد صدق مرة وإلى الأبد حين قطع بأن "آفة حارتنا النسيان"؟
هناك في واقع الحال فريق ثالث يميل إلى القول إن الوباء لن يعيد تشكيل التاريخ، ولكنه بحال من الأحوال سيسرع مساراته، ويكاد يبدو هذا السيناريو هو النتيجة الأكثر احتمالا.
في خلاصة رؤيته يقودنا "زكريا" إلى أن عالم ما بعد الجائحة، حتما في جوانب عديدة منه، سيكون نسخة عن العالم الذي عرفناه، ولكن عندما تسير الحياة بسرعة إلى الأمام، ستواكبها الأحداث ولن تسير بشكل طبيعي، ويمكن أن تكون العواقب مدمرة، بل مميتة.
بعد انتشار الوباء، ستكون الحياة مختلفة بالنسبة إلى البلدان والشركات، لا سيما الأفراد، حتى وإن عاد الاقتصاد والسياسة إلى طبيعتهما، فلن يعود البشر، وذلك لأنهم مروا بتجربة جديدة بشق الأنفس.
ماذا عن الفقير وراء جدران الفاتيكان، فرنسيس، الرجل ذي الثوب الأبيض، وهل اعتبر بالفعل كورونا قضيته؟
أغلب الظن أنه كان الصوت الصارخ حول العالم طوال فترة الأزمة، ولهذا رفع عقيرته منذراً ومحذراً من ترك الأشقاء والشقيقات الأكثر ضعفاً، الذين يسكنون المدن والضواحي في جميع أنحاء العالم وحدهم.
على أنه، وفي ظلمة ليل كورونا البهيم، كان الرجاء شعلة "فرنسيس"، التي ينير بها سواد الوباء، الأمر الذي تبدى واضحاً في المقال الذي نشرته مجلة "الحياة الجديدة" الإسبانية، والذي تطرق فيه الحبر الأعظم إلى "خطة النهوض" بعد انتهاء الجائحة، وفيه لفت إلى أن هذا الفيروس ولد آلاماً كبيرة، بيد أنها ساعدتنا على اكتشاف كوننا أعضاء في عائلة واحدة، وشدد أيضاً على ضرورة تبني نظرة جديدة للعالم، تقوم على نشر "الأجسام المضادة" الخاصة بالتضامن.
"فرنسيس" يرى أن العالم برمته في زمن الفيروس الشائه بات متسائلاً: "من يستطيع أن يدحرج حجر الوباء الذي يهدد مستقبل الناس ويقضي على الأمل والرجاء؟"
هناك حجر كبير يسد الطريق، ويتسبب في المعاناة لفئات عديدة من البشر، لا سيما المسنين قيد الحجر المنزلي، والأسر العاجزة عن توفير لقمة العيش، فضلاً عن العبء الكبير الملقى على عاتق العاملين في القطاع الصحي والموظفين الرسميين.
قرع "فرنسيس" في مقاله "أبواب الأنانية" إن جاز التعبير، إذ لفت إلى أن الدرس الجدير بمتابعته واستخلاصه، هو أن أحدا لا يستطيع أن ينجو وحده، فالحدود تتلاشى، والجدران تنهار، وكل الخطابات المتطرفة تضمحل أمام شعور الإنسان بهشاشته.
هل تعلمت البشرية في زمن الجائحة التجديف معا، أم أنها ستمضي نحو الغرق معا؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة