حزب المستقبل التركي.. تحريك الحياة السياسية الراكدة
الإعلان عن حزب داود أوغلو الجديد "المستقبل" جاء وسط بيئة سياسية عنوانها الأبرز الانقسام
تكميم الأفواه والرأي الواحد وعدم قدرة الحزب على مواجهة المشاكل، كانت أسبابا رئيسية لاستقالة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو رسمياً من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 13 سبتمبر/أيلول.
وبعد أشهر من محاولات التشويه وكيل الاتهامات لأحمد داود أوغلو، تقدم في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري بطلب إلى وزارة الداخلية في بلاده بشكل رسمي لبدء إجراءات تسجيل حزبه الجديد، الذي اختار له اسم "المستقبل" وشعاره عبارة عن "ورقة خضراء من شجرة الدُلْب".
بيئة مغايرة
جاء الإعلان عن حزب داود أوغلو الجديد وسط بيئة سياسية عنوانها الأبرز الانقسام، وظهر ذلك في تواصل حملة الاتهامات الإعلامية الممنهجة التي يقودها حزب العدالة والتنمية الحاكم ضدّ أعضاء سابقين وخصوم سياسيين.
في الصدارة من هؤلاء كان داود أوغلو الذي وجه انتقادات حادة للحزب في أبريل/نيسان 2019 على خلفية الفشل الذريع في الانتخابات المحلية التي أجريت نهاية مارس/آذار 2019، وأسفرت عن فوز كبير للمعارضة التركية.
كما تزامن إعلان حزب داود أوغلو مع اتهامات أطلقها الرئيس التركي في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، نالت من القيادات التاريخية للعدالة والتنمية، وفي الصدارة منهم داود أوغلو، حيث اتهمه بالاحتيال على "بنك خلق" المملوك للدولة، الذي تلاحقه اتهامات خرق العقوبات الأمريكية على إيران، من خلال حصول جامعة "إسطنبول شهير" التي أسسها أوغلو على قروض بدون ضمانات تصل قيمتها إلى نحو 72 مليون دولار.
كما اتهم أردوغان المسؤول الاقتصادي المعروف علي باباجان نائب رئيس الوزراء السابق بالتوقيع على مرسوم مشبوه بتخصيص أراضٍ مملوكة للدولة، للجامعة.
وتصاعدت حدة التوتر بين أردوغان وأوغلو قبل أيام عندما رفع الثاني من نبرة تحديه، ودعوته أردوغان إلى إعلان يوم 8 ديسمبر/كانون الأول ميلادا جديدا في تركيا، داعيا إلى تحقيق برلماني في الممتلكات الشخصية لكل منهما وأقاربهما من الدرجة الأولى والثانية حتى يتبين من هو الفاسد والمحتال.
كذلك دعا أوغلو إلى نقل الممتلكات والموارد لأي منهما إذا كانت غير شرعية، وفقا لنتائج هذا التحقيق البرلماني، إلى الخزانة العامة، وتشكيل صندوق خاص لتوزيع هذه الأموال على الأيتام والفقراء والمحتاجين الآخرين.
وكان أوغلو الذي أكد عشية إطلاق حزبه "المستقبل" رسمياً أنه يحمل على عاتقه "مسؤولية تاريخية" لبناء "حركة سياسية جديدة وانتهاج مسار جديد"، قد أعلن أنه لم يعد من الممكن العمل في عهد إدارة حزب العدالة والتنمية الحالية التي تصف أي انتقاد من داخل الحزب بأنه "خيانة".
اتجه أحمد داود أوغلو إلى تأسيس حركة سياسية جديدة في تركيا لاعتبارات عدة، يمكن بيانها على النحو الآتي:
تراجع شعبية الحزب
انخفض عدد أعضاء الحزب الحاكم خلال عام واحد، بمقدار 788 ألفا و131 عضوا، بحسب ما أعلنته المحكمة العليا في 1 يوليو/تموز 2019، إذ سجل عددهم 9 ملايين و931 ألفا و103 أعضاء، بعد أن كانوا 10 ملايين و719 ألفا و234 عضوا.
كما أنه خلال الشهرين الممتدين من 1 يوليو/تموز حتى 9 سبتمبر/أيلول 2019، انخفض أعضاء الحزب كذلك بمقدار 56 ألف شخص، ما شكل حالة كبيرة من الذعر في أروقة العدالة والتنمية دفعته للبحث عن حلول وصيغ لوقف هذا الانهيار.
الانتخابات المبكرة
جاء قرار أوغلو بتقديم أوراق تأسيس حزبه الجديد رسمياً إلى الأجهزة الأمنية، في ظل تعالي الأصوات التي تدعو إلى ضرورة إجراء انتخابات مبكرة، وذلك على خلفية صعوبة التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والفشل في وقف تداعياتها السلبية، خصوصا بعد أن فقدت الليرة ما يقرب من ثلث قيمتها أمام الدولار، وتصاعد معدل التضخم إلى نحو 15,5 في المئة، ناهيك بارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية.
تهميش داود أوغلو
دفع الرئيس أردوغان باتجاه تهميش داود أوغلو وتقليص صلاحياته عندما كان رئيساً للوزراء، وهو الأمر الذي دفعه للاستقالة من رئاسة حزب العدالة والتنمية والوزراء في عام 2016، كما تجاهل الرئيس أردوغان رئيس وزرائه السابق داود أوغلو وباقي الرفاق الذين انفصلوا عن الحزب – علي بابا جان وعبدالله غل- وقرر إخفاء صورهم من أي محطات سابقة للحزب ضمن احتفالاته بذكرى التأسيس الثامنة عشرة في 14 أغسطس/آب الماضي، ولم يدعُ أيا منهم لحضور الاحتفالات.
تنامي مشاعر العداء لأردوغان
يعتقد بعض الباحثين الأتراك أن أحد الدوافع الرئيسية لقرار داود أوغلو تشكيل حزب جديد هو "كبرياؤه المجروح". فقد أُجبر داود أوغلو على الاستقالة من منصبة رئيسا للحكومة والحزب الحاكم في 2016، برغم جهوده المركزية في إعادة الحزب إلى صدارة المشهد في الانتخابات البرلمانية المبكرة في أغسطس/آب 2015، وذلك بعد مرور أشهر على خسارة الحزب الانتخابات نفسها التي جرت للمرة الأولى في يونيو/حزيران 2015، وفشل الحزب خلالها في تأمين أغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً. وأجبر داود أوغلو على ذلك بعد ظهور تسريبات مجهولة حول نزاعات طويلة بينه وبين أردوغان.
الممارسات السلطوية
تعارض القيادات والعناصر المرشحة للطرد من الحزب، الرئيس التركي، بفعل توجهه نحو تكريس الممارسات السلطوية، وترى هذه القيادات أن الحزب انجرف عن مبادئه التي قام عليها، وأصبح خاضعا لتسلط أردوغان منذ تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي بموجب التعديلات الدستورية التي تم تمريرها في أبريل/نيسان 2017، وأدت إلى وضع سلطات غير مسبوقة بأيدي أردوغان، كما أضر الهياكل والمؤسسات الأساسية في تركيا.
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس أردوغان أطاح في مايو/أيار عام 2016 بأحمد داود أوغلو من الحزب ورئاسة الحكومة، لأنه لم يكن متحمساً ولا مقتنعاً بالتعديلات الدستورية التي ألغت النظام البرلماني، وقال خلال فترة وجود أوغلو في موقع رئاسة الوزراء: "النظام الرئاسي أولوية.. لكن إذا لم يكن فرضه ممكناً في البرلمان فلا مجال للإصرار عليه".
تعزيز التوجه الأيديولوجي
رغم أنه ليس متوقعا أن تعمل القيادات المرشحة للطرد خارج منظومة الإسلام السياسي، يراهن على استقطاب المحافظين المتدينين داخل حزب العدالة والتنمية.
غير أن داود أوغلو ورفاقه يعملون على إعادة صياغة مشروعهم، بجعله أكثر انسجاما مع المعايير الديمقراطية المحافظة، التي لا تتعارض مع قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية.
ويعارض داود أوغلو في الوقت ذاته التوجه الأيديولوجي الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية في دعم ما اصطلح على تسميته بحركات الإسلام السياسي في المنطقة، عن قصور الوعي السياسي للحزب في فهم طبيعة العلاقات الدولية، وكيفية تطوير العلاقات بين الدول على أساس المصالح المشتركة والتنمية، وبما يخدم الاستقرار والديمقراطية، إذ تحول هذا البُعد إلى مشكلة للسياسة الخارجية التركية تبلورت في شقين: أولهما اتساع الهوة بين تركيا ومحيطها العربي، ويرتبط الثاني بالتوجه الجديد للإدارة الأمريكية الساعي إلى معارضة وحظر أنشطة تيارات الإسلام السياسي بكل اتجاهاتها وتوجهاتها.
ختاماً، يمكن القول إن حزب داود أوغلو الجديد قد يحرك المياه الراكدة في الحياة السياسية التركية بفعل التوجهات السلطوية للرئيس التركي وتضييق المجال العام، والإصرار على إقصاء الخصوم والأصدقاء المختلفين مع ممارسات النظام الحاكم.
aXA6IDMuMTQ0LjI1My4xOTUg جزيرة ام اند امز