افتتاح القناة أثر على سياسة الدولة العثمانية تجاه منطقة الخليج، وظهر ذلك في العام التالي مُباشرة عام 1870
تشهد مصر هذه الأيام احتفالات كبيرة بمناسبة مرور 150 عامًا على افتتاح قناة السويس. ففي يوم 17 نوفمبر 1869 وأمام حشد كبير من ملوك وأمراء أوروبا والعالم، أصدر الخديوي إسماعيل حاكم مصر أمره بإزالة ما تبقى من حاجز بري فتدفقت مياه البحر الأبيض المتوسط لتختلط مع مياه البحر الأحمر لأول مرة في العصر الحديث. وجذب افتتاح هذا المجرى المائي أنظار الدول الكبرى في العالم واهتمامها بسبب ما حمله حفر القناة من آثار مُهمة على التجارة والسياسة الدولية.
فقد كان من شأنه ازدياد الأهمية الاستراتيجية لمصر ما أدى إلى اشتعال التنافس بين بريطانيا وفرنسا على السيطرة عليها، وكان من شأنه أيضًا تغير في الطرق البحرية والملاحية في العالم التي تربط بين أوروبا من ناحية وآسيا وبلاد المحيط الهندي وبحر الصين وشرق أفريقيا والجزيرة العربية من ناحية أخرى، وازدادت أهمية البحر الأحمر التي ارتبطت موانيه بالموانئ الأوروبية، وارتبط أيضًا بسهولة انتقال التجارة والجيوش بين الشرق والغرب حتى إن بعض المؤرخين يعتبرون أن افتتاح القناة هو بداية لمرحلة جديدة من تاريخ الملاحة البحرية.
ولم يكن الخليج العربي وإماراته بمنأى عن هذا التطور وتأثرت موازين القوى فيه بافتتاح القناة، فالخليج العربي يُمثل مع البحر الأحمر ذراعين طويلين يحدهما المحيط الهندي من الجنوب حاضنًا شبه الجزيرة العربية ومُلتقيًا بالبحر الأبيض المتوسط الذي يربط المحيطين الهندي والأطلسي.
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا هي القوة الأوروبية السياسية والاقتصادية الصاعدة في المنطقة، وذلك في مواجهة نفوذ متراجع للدولة العثمانية التي كان قد أصابتها أمراض الفساد السياسي والإداري والمالي، ولم يعد لها وجود فعلي في أغلب مشيخات الخليج سوى النفوذ الأدبي والمعنوي باعتبارها "دولة الخلافة" و"حاضرة الإسلام".
في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ارتبطت التطورات السياسية والتوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر بافتتاح قناة السويس. واستمر هذا الارتباط في القرنين العشرين والحادي والعشرين مع ظهور النفط وتصاعُد الصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة.
بالنسبة لبريطانيا، كانت الهند هي درة التاج وجوهرة الإمبراطورية واحتل الخليج مكانة استراتيجية متميزة باعتباره الطريق البحري إليها، برزت أهمية الخليج إبان الحروب النابليونية، وبعد زوال الخطر الفرنسي ظهرت الإمبراطورية الروسية كمنافس جديد مد نفوذه نحو جنوب فارس. فشنت بريطانيا حملتين عسكريتين على شواطئ فارس، الأولى في 1838 - 1842، والثانية في 1856-1857.
وازدادت أهمية الخليج مع افتتاح القناة وانتشار السفن البخارية، وتضاعفت أنشطة شركة الهند البريطانية للملاحة البُخارية حتى وصل عدد سفنها إلى 85 سفينة بُخارية عام 1895، وأصبح لها عدد من الوكلاء في إستراليا وجنوب آسيا وشرق أفريقيا. وأقامت خطًا ملاحيًا منتظمًا بين بومباي في الهند والسويس في مصر ومنها إلى لندن وذلك إضافة إلى الخط الملاحي الآخر الذي ربط الإسكندرية بميناء مارسيليا الفرنسي.
ومدت في 1857 أعمدة البرق التي ربطت بين الهند والخليج لسرعة نقل الأخبار، وانتظمت دوريات الأسطول البريطاني في مياه الخليج بدعوى مُكافحة القرصنة ومُحاربة تجارة الرق وتهريب الأسلحة، وأصبح هذا الوجود البريطاني البحري أداة لممارسة النفوذ والتدخل السياسي ورعاية مصالحها الاقتصادية وتِجارتها المُتزايدة مع فارس وجنوب العراق ومشيخات الساحل العربي. فتوسطت مثلا في النزاع بين الدولة العثمانية وفارس، ووقعت مع فارس في 1841 اتفاقية الدولة الأولى بالرعاية، وفرضت على مشيخات الساحل العربي مجموعة من معاهدات الحماية التي بموجبها احتكرت لندن العلاقات الخارجية لها. وساد في منطقة الخليج مرحلة طويلة من "السلام البريطاني".
كان من شأن افتتاح القناة اختصار الطريق البحري بين لندن وبومباي بما يقرب من ثلثي المسافة، وخفض المسافة بين إستراليا - التي كانت مستعمرة بريطانية - ولندن بنحو 1600 كيلومتر وأدى ذلك إلى خفض تكلفة النقل البحري ومدته.
في هذا السياق، سعت بريطانيا إلى السيطرة على نقاط ارتكاز لها كان من أهمها توسيع قاعدتها العسكرية في عدن جنوب البحر الأحمر التي كانت قد احتلتها عام 1839، واحتلال جزيرة قبرص التي تقع في شرق البحر الأبيض المتوسط في عام 1878 التي تشرف على المدخل الشمالي للبحر الأحمر، ثم احتلال مصر في عام 1882 وأصبح لها وجود عسكري مباشر على منطقة قناة السويس. وهكذا بسطت بريطانيا نفوذها على طول البحر الأحمر من عدن جنوبًا إلى السويس شمالًا وضمنت السيطرة على المنطقة الممتدة من البحر المتوسط إلى خليج عدن.
أثر افتتاح القناة كذلك على سياسة الدولة العثمانية تجاه منطقة الخليج، وظهر ذلك في العام التالي مُباشرة عام 1870، حدث هذا التغيير بسبب ثلاثة عوامل رئيسية: أولها، افتتاح القناة الذي سمح للأسطول العثماني بالالتفاف حول جزيرة العرب للوصول إلى الخليج، وربط ميناء الآستانة بموانئ الجزيرة العربية. وثانيها أنه كما يسرت القناة سهولة حركة الأسطول العثماني، فإنها منحت الميزة نفسها للأسطول البريطاني وأساطيل الدول الأوروبية الأُخرى الطامِحة في منطقة الخليج. وثالثها تولي مدحت باشا في عام افتتاح القناة منصب والي بغداد، وهو الرجل الذي كان أحد أهم رموز التيار الداعي إلى إحياء النفوذ العثماني في الخليج وتحويله من نفوذ اسمي إلى وجود عسكري وسياسي فعلي، باعتبار أن ذلك يُمثل تعويضًا عن الخسارة التي أصابت الدولة باستقلال ولايات البلقان عنها، وكان أول مظهر عملي لهذه السياسة العثمانية الجديدة هو حملة الأحساء في أبريل عام 1870 التي أمر بها مدحت باشا بهدف استعادة السيطرة على القطيف والأحساء، مستغلا في ذلك النزاع الذي نشأ بين عبدالله وسعود بعد وفاة والدهما الأمير فيصل بن تركي في ديسمبر 1865. وطلب عبدالله من الدولة العثمانية التدخُل لنُصرته. وكانت هذه الحملة بداية لإحياء النفوذ العثماني في نجد.
كما أثر افتتاح القناة على سهولة وسُرعة الانتقال بين الآستانة وموانئ الحجاز واليمن، ولأول مرة كان بمقدور الحكومة العثمانية الاتصال البحري المُباشر بهم. وأصبح من الممكن للحجاج الأتراك السفر مُباشرة من الموانئ العثمانية إلى الحجاز. كما أثر على علاقة الدولة العثمانية بالمناطق المرتبطة بها في البحر الأحمر. فمع ازدياد أهمية هذا البحر، ازدادت أهمية الموانئ المطلة عليه ومن أبرزها ميناء "الحُديدة" باليمن الذي تبلورت أهميته الاستراتيجية والتجارية، فأصبح مقرًا لفروع عديد من الشركات التجارية الأوروبية لرعاية مصالحها وازداد عدد السفن التُجارية التي تتردد عليه.
أدى ذلك إلى سعي الآستانة لفرض نفوذها الفعلي في اليمن، فقمعت محاولة أمير عسير محمد بن عائض السيطرة على "الحديدة" في عام 1870، وانطلقت منها حملة عسكرية بقيادة أحمد مختار باشا للاستيلاء على صنعاء التي دخلها دون قتال في عام 1872، فقد رحب به العلماء والأعيان لكي يخلصهم من ظروف الفوضى وحروب القبائل التي سادت المنطقة لسنوات. وصدر فرمان سلطاني بتعيين مختار باشا واليا على اليمن. ومن صنعاء، انطلقت القوات العثمانية لمد نفوذها على تعز وبقية أرجاء اليمن. واستمر العثمانيون في تركيزهم على ميناء "الحديدة" كقاعدة للوجود العثماني في البحر الأحمر في مواجهة النفوذ الأوروبي. كما ازدادت أهمية موانئ شبه الجزيرة العربية التي أصبحت حلقة وصل بين موانئ الهند والسويس.
لم تكن بريطانيا والدولة العثمانية منفردتين في الاستفادة من فتح القناة والسعي لمد نفوذهما في البحر الأحمر، بل نافستهما كل من فرنسا وإيطاليا. فقد أرادت فرنسا الاستفادة من وضعها المتميز بسبب أن إحدى شركاتها امتلكت امتياز إدارة قناة السويس التي أسسها ورأسها وقتذاك المُهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس، وذلك بهدف مَد نفوذها خارج مِصر.
أما إيطاليا، فقد قامت إحدى شركاتها في نوفمبر 1869- أي في شهر افتتاح القناة -بشراء أرض في "خليج عصب" بإريتريا على الساحل الغربي للبحر الأحمر بالقرب من باب المندب ثم أعلنتها الحكومة الإيطالية مستعمرة لها، وحاولت في عام 1871 السيطرة على جزيرة "سقطرى" ولكنها فشلت نتيجة المعارضة البريطانية. وبدأت في إنشاء مُستعمرات لها بإريتريا في 1882 حتى احتلالها بالكامل وإعلانها مُستعمرة إيطالية في 1890.
وهكذا، ففي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ارتبطت التطورات السياسية والتوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر بافتتاح قناة السويس. واستمر هذا الارتباط في القرنين العشرين والحادي والعشرين مع ظهور النفط وتصاعُد الصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة