من بين الخصائص الأساسية للبشر رغبتهم النهمة في استطلاع المستقبل وسبر أغوار قادم الأيام.
ومن هنا عرفت أمم وشعوب كثيرة استنطاق النجوم والاستعانة بالقوى الميتافيزيقية لفهم الكون وتوقع أحداثه.
وعلى الرغم من أن معرفة المستقبل أو التنبؤ به قد يكون حلوا في الفم من جراء إطفاء ظمأ المعرفة القادمة، فإنه عادة ما يكون مرا في الجوف، ومرد ذلك أنه يخلف من ورائه هلعا ورعبا من جراء الأحداث القادمة. ومن هنا تبدو حركة التضاد التاريخية بين معرفة العيب والرضا بالواقع.
على أنه وإن كان الوضع بالنسبة للمستقبل على هذا النحو، فإن قراءة المستقبل بالمعنى التقدمي وليس الرؤيوي التنبؤي، أضحى مهنة وعلما قائما بذاته لدى الكثير من الدول حول العالم، علما له معطيات ومقدمات، تتم معالجتها بطرق علمية وعبر أجهزة حاسوب متقدمة، من خلال معادلات رياضية تفعل فيها نظرية الاحتمالات بنوع خاص، لتصل الدول والمؤسسات إلى رؤية تساعدها في العبور إلى المستقبل بأكبر قدر ممكن من الأمان ومراعاة أبعاد التغيرات المحتملة وتبعاتها المستقبلية على واقعها الآني وفرصها المستقبلية.
منذ العام 1997، درج مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي على نشر تقرير يحمل عنوان، الاتجاهات العالمية، وذلك مرة كل أربع سنوات، ما يعني أنه عند بداية كل ولاية رئاسية جديدة، وسواء كان الفائز هو الرئيس نفسه وقد فاز بولاية ثانية، أو مرشح آخر من حزب منافس، ويقوم فيه بتقييم الاتجاهات والشكوك الرئيسية التي ستشكل البيئة الاستراتيجية للولايات المتحدة في العامين المقبلين.
ما الهدف من هذا التقرير؟
الشاهد أن فكرة استشراف الاتجاهات العالمية توفر إطارا عمليا تحليليا لواضعي السياسات في وقت مبكر من كل إدارة أثناء قيامهم بصياغة استراتيجية الأمن القومي، والتنقل في مستقبل غير مؤكد.
يمكن أن يفهم من هذا المفهوم أن الهدف ليس تقديم تنبؤ محدد للعالم في عام 2040، بل العمل على مساعدة صانعي السياسات والمواطنين على رؤية ما قد يكمن وراء الأفق والاستعداد لمجموعة من المستقبلات المحتملة.
وفقا لبعض المقتطفات التي تم تسريبها عبر إذاعة صوت أمريكا الأسبوع الماضي، يكاد القارئ أن يصاب بحالة من القلق في النهار والأرق في الليل، من جراء التحديات الجسام المواكبة لقادم الأيام، لا سيما في ظل متغيرات جذرية مثيرة للهلع، من نوعية جائحة فيروس كوفيد-19 المستجد، ذاك الذي لا يعرف أحد إلى أين يمضي بعالمنا المعاصر، وإلى متى سينتهي، وبخاصة في ظل عدم وضوح الرؤية الخاصة بقدرة اللقاحات التي تم إنتاجها بسرعة شديدة ومن غير توافر الحد الأدنى اللازم من التجارب السريرية كما هو المتعارف عليه.
هل العالم ببنيته الهيكلية التي ورثها عن الحرب العالمية الثانية سيبقى على تكويناته المؤسساتية ورؤاه المستقبلية أم أن هناك تغيرات في الطباع لا بد أن تحدث، وتبدلات في الأوضاع حتما ستعلن؟
بحسب نص التقرير، فإن المؤسسات والأنظمة التي هيمنت على الأحداث العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ستجاهد للاستجابة "للتحديات العالمية المتتالية"، بما في ذلك تغير المناخ والمرض والأزمات المالية والتكنولوجيا المتطورة باستمرار.
هل نحن إزاء تحقق نبوءة المثقف العضوي الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي تحدث عن القديم الذي يجاهد كي لا يزول الحديث الذي يعاني أثناء الولادة، وبينهما تحدث اضطرابات وقلاقل عديدة؟
يبدو أن ذلك كذلك فعلا وقولا، لا سيما أن واضعي التقرير يحذرون من أن تلك التحديات ستختبر مرارا وتكرارا مرونة وقدرة المجتمعات والدول والنظام الدولي على التكيف، وغالبا ما تتجاوز قدرة الأنظمة والنماذج الحالية. ولهذا فإن بعض التطورات قد تكون كارثية بالفعل.
أمران ينبغي على المرء التوقف أمامهما: الأول موصول بالمناخ العالمي، والثاني بأوضاع الأوبئة والأمراض، سواء المتوطنة منها أو المستجدة.
أما عن المناخ، فقد اقتربت الكرة الأرضية من الانفجار الكبير من جراء الاحتباس الحراري. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عادت من جديد إلى اتفاقية باريس للمناخ، فإن المشهد الإيكولوجي العالمي لا يزال في حاجة إلى عدة عقود لاستنقاذ الكرة الأرضية، هذا إن خلصت النوايا بين الدول الكبرى المتقاتلة على التراكمات الرأسمالية وفوائض الأرباح النرجسية غير المستنيرة.
على الجانب الآخر، يذكر التقرير أن جائحة كوفيد- 19 قد وضعت العالم برمته، شرقا وغربا، بيضا وسودا، صفرا وخلاسيين، أمام حقيقة الضمانات الزائفة التي تمسكت بها الإنسانية طوال العقود الماضية، وبينت درجة الهشاشة الكامنة في تجاويف النظام الدولي، وكيف أنه ضعيف الإعداد لمواجهة التحديات العالمية المتفاقمة.
يضعنا التقرير أمام إشكالية خطيرة تجاهلها الجميع من جراء السعي وراء الرأسمالية الجامحة، والنيوليبرالية غير الرشيدة إن جاز التعبير، ونعني بها غياب العدالة الاجتماعية بين الدول الغنية والأخرى الفقيرة... هل هذا التفاوت كفيل بأن يحدث اضطرابات عميقة العقدين المقبلين؟
يرى خبراء الاستخبارات الأمريكية أن التغير المناخي كفيل بأن يحدث صراعا إنسانيا غير مسبوق بين الدول الغنية والبلدان الفقيرة، ذلك أن تلك الأخيرة سوف تكون عرضة للمعاناة، وقد يؤدي عدم قدرة حكوماتها على التكيف والاستجابة إلى موجات جديدة من الهجرة، وهذا بدوره، وفقا للتقرير، سيؤدي إلى إجهاد موارد وقدرات بلدان المقصد.
تبدو كلمات التقرير في هذه الجزئية متحفظة بشكل واضح، ولا تتحدث عن حالة الانفلات الأمني الواردة حول العالم، والمثال الواضح أمام الجميع حالة الهجرة غير الشرعية من قارة فقيرة مثل أفريقيا، في اتجاه الشمال الأوروبي الغني نسبيا، الأمر الذي يمكن أن يجعل من مصير أوروبا الحالية مشابها لمصير الأوروبيين في منتصف القرن الخامس الميلادي، حين أسقط القوط الإمبراطورية الرومانية.
لم يغفل التقرير قضية غالب الأمر سيكون لها الكثير من الوقع على حال ومآل عالمنا الإنساني خلال العقدين القادمين، ونعني بها مسألة صراع الهويات التي انطلقت من جديد، سواء ارتكزت على أسس عرقية أو رؤى دوجمائية، الأمر الكفيل بتفكك المجتمعات بشكل متزايد، حيث يبحث الناس عن الأمن باللجوء إلى مجموعات متشابهة التفكير، تستند إلى هويات راسخة وحديثة بارزة، ما يعني الارتداد عن فكر العولمة والقرية الكونية، والعودة إلى دائرة القبلية ونهج العصبيات والشوفينيات بحثا عن الكرامة التي ضاعت بحسب تعبير فرانسيس فوكاياما في مؤلفه الأخير والشهير: "الهوية.. مطالب الكرامة وسياسات الاستياء".
هل سيلعب الذكاء الاصطناعي دورا مؤثرا ضمن إطار التفكك الموعود؟
الثابت أن انتشار التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي، والذي سيسهل على الحكومة والمجموعات، حتى الشركات تشكيل الرأي العام، سواء من خلال حملات التأثير أو عمليات التضليل.
هل يحتاج التقرير إلى عودة لاحقة للتوقف أمام بعض المنعطفات الجوهرية التي ستشكل حال ومآل الإنسانية؟
إلى قراءة قادمة مكملة بإذن الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة