سيناريو انتخاب رئاسة مجلس النواب ذاته تكرر خلال جلسة اختيار رئاسة العراق، التي كانت بين المد والجزر والخلافات والاتفاقات أيضا.
وأخيراً اكتملت الرئاسات الثلاث بانتخاب برهم صالح رئيساً للعراق وعادل عبدالمهدي رئيساً للوزراء.. بعد أن تم اختيار رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، لكن الرئاسات الثلاث تم انتحابها أو بالأحرى اختيارها حسب السيناريو ذاته. مما لا يخفى على أحد أن ولادة هذه الأسماء تمت بعد مخاض عسير، واتفاقات إقليمية ودولية في غاية التعقيد.
وقد ولدت طبخة الرئاسات الثلاث دون الرجوع لا إلى الكتلة الأكبر ولا أصوات الناخبين، وانتهت آمالهم في نتائج غير متوقعة، لأنها تمت من خلال مخطط المحاصصة في سلم الحكم: كردي رئيساً، وشيعي رئيساً للوزراء، وسني رئيساً لمجلس النواب. هذه الموالية أصبحت قانوناً في العراق، ويثبت هذه المرة كالمرات السابقة أن نظام الحكم العراقي طائفي بامتياز، وبعيد كل البعد عن اي وعي حضاري بآليات الحكم الديمقراطية في العالم الحديث.
هل يشهد المشهد السياسي العراقي تغييراً يُذكر بعد توالي الحكام على الرئاسات الثلاث؟ وهل يتمكن الحكام الجدد أن يستعيدوا عافية العراق؟ هل تتحقق السيادة العراقية بعيداً عن الضغوطات الإيرانية؟ هل سيتم اختيار وزراء مستقلين لا حزبيين، يعملون حسب أجندات أحزابهم وكتلهم؟
لم تكن الطبخة الحالية تمر دون مباركة حزب الدعوة وكتلتي الفتح والنصر، على الرغم من أن الأحداث المتسارعة أفضت إلى خروجه من الحكم بعد 13 عاماً من الهيمنة عليه، لكن هيمنة أشخاصه لا تزال قوية. ومع الإيمان، أنه لا توجد عصا سحرية، إلا أن الطاقم الجديد يعد بالكثير دون أن يجترح المعجزات على الصعيد العملي.
إن اختيار هؤلاء الأشخاص للرئاسات الثلاث في اللحظة الأخيرة لم يكن سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظام بات يحتضر، ولا يلاقي أي تأييد شعبي، بل منزوٍ على مصالحه الخاصة في المنطقة الخضراء التي ينظر إليها الناس نظرة ريبة وشك في إخلاصهم إلى بلد عريق يسمى العراق.
لم يكن اختيار برهم صالح إلا تحصيل حاصل بعد انسحاب ممثل الحزب الديمقراطي الكردستاني فؤاد حسين؛ احتجاجاً للخروقات كما يدعي.
وجاء عادل عبدالمهدي خلافاً لما نوهت إليه "المرجعية" وفق مفهوم "المُجرب لا يُجرب"، كونه شغل مناصب عديدة سابقاً: وزيراً للنفط ووزيراً للمالية ونائب رئيس الجمهورية، ولم يترك أي بصمات واضحة لا في الحلول الاقتصادية ولا المالية، اللهم إلا في توزيع "الهريسة" ــ طقوس شيعية ــ والتظاهر بالإيمان والورع. وهو حليف استراتيجي للأكراد إذ أنه قام بزيادة حصة إقليم كردستان من 12 إلى 17 في المائة من الموازنة العراقية حين كان وزيراً للمالية في زمن أياد علاوي، كما أتاح للبارزاني تصدير النفط من الإقليم ومن حقول كركوك إلى الخارج بشكل مستقل عن الحكومة المركزية.
إضافة إلى ذلك، أن هذا الرجل لا يتمتع باحترام الكتل الأخرى، لأنه تأرجح في ولاءاته الفكرية والأيديولوجية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين: بعثي، وشيوعي ــ جماعة ماو تسي تونغ ــ ، وإسلامي حزب "المجلس الإسلامي الأعلى" بعد تغيير اسمه. وأخيراً أصبح في خانة المستقلين بعد تنحيه من وزارة النفط، وانخراطه في قيادة ما يُسمى بـ"مجلس التنمية المستقل"، وهو شكل من أشكال المجتمع المدني.
سيناريو انتخاب رئاسة مجلس النواب ذاته تكرر خلال جلسة اختيار رئاسة العراق، التي كانت بين المد والجزر والخلافات والاتفاقات أيضاً. ولم تكن بعيدة عن التأثيرات الإقليمية والدولية كالعادة، حيث أرادت واشنطن إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الساعات الأخيرة عبر دعم مرشح مسعود بارزاني، ما أدى إلى وقوف الكتل الشيعية وراء برهم صالح، بعدما توصلت إلى توافق ترشيح عادل عبدالمهدي مرشحاً لرئاسة الحكومة. كان ترشيح عادل عبدالمهدي، كاسم توافقي، جزء من إنقاذ العملية السياسية دون الاستناد إلى الكتلة الكبرى، وقررت الأحزاب المتنفذة في حالة تخبط الأكراد على الحسم، اللجوء إلى أصوات مجلس النواب، وهذا ما حصل. برهم صالح كان مدعوماً من إيران، باعتباره الحليف التاريخي لها، إلا أن ذلك عمّق الخلاف بين المكونات الكردية. وسبق ذلك، من اجتماع وفدي الحزبين الكرديين، نيجرفان بارزاني وقوباد طالباني، مع السفير الإيراني في بغداد، وتم تأجيل الانتخابات أكثر من مرة إلى أن استقر القرار على اسم عادل عبدالمهدي، باعتباره صديقاً قديماً منذ التسعينيات، فيما تعد طهران اختياره مكسباً إيجابياً.
إن سنوات صعبة مرت على العراقيين دون أي إصلاح أو إعمار أو عدالة أو توفير خدمات أو أمن. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح ليس في اختيار الأشخاص والمكونات التي تمثلها بل في الإجابة عن هذه التساؤلات: هل يشهد المشهد السياسي العراقي تغييراً يُذكر بعد توالي الحكام على الرئاسات الثلاث؟ وهل يتمكن الحكام الجدد من أن يستعيدوا عافية العراق؟ هل تتحقق السيادة العراقية بعيداً عن الضغوطات الإيرانية؟ هل سيتم اختيار وزارء مستقلين لا حزبيين، يعملون حسب أجندات أحزابهم وكتلهم؟ هل سيتم الاعتماد على التكنوقراط في إدارة آليات الحكم؟ هل سيتوجه الحكم الجديد إلى النأي بنفسه عن الطائفية أم يسعى إلى تكريسها من خلال دعم مراكز القوى والعصابات والمليشيات المهيمنة على الشارع العراقي؟ هل تسعى الرئاسات الثلاث الجديدة إلى كشف الفاسدين، وإيقاف سرقة المال العام؟ وهل سيتم الشروع بإصلاح مؤسسات التربية والتعليم والجامعات؟ هل سيتم البدء بإعمار البنية التحتية المدمرة، وتوفير الخدمات في الماء والكهرباء، وإسكان النازحين وإزالة المخيمات وتطوير الثروات والاتجاه نحو الاقتصاد الإنتاجي؟ وأخيراً، هل ستستجيب الرئاسات الثلاث إلى مطالب المتظاهرين الأخيرة؟
لا أحد يريد أن تمر على العراق أربع سنوات عجاف أخرى، لا يتحقق فيها أي تطور، خاصة من الدول الإقليمية المجاورة، لأن أمنها هو من أمن العراق، اللهم إلا إيران المستفيد الأول والأخير من عجز العراق عن تحقيق ما طرحناه في الأسئلة السابقة. هذه الأسئلة تبحث عن إجابات، وينتظرها الناس، على أحر من الجمر، من جميع الفئات الاجتماعية المتضررة، من السياسة القائمة على المحاصصة الطائفية، ولكن الأمل ضئيل جداً في نفق العراق المظلم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة