حالة الخصام التي تسود المسكونة لم تعد قاصرة على العلاقة بين البشر وبعضهم بعضا، بل امتدت لتصل البشر بالطبيعة، التي تبدي غضبها ورفضها
في لقائه قبل عدة أيام مع "أداما يانج" المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس كان الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر الشريف يثني على دعم المؤسسة الأممية لوثيقة الأخوة الإنسانية، التي تم توقيعها في مثل هذا الشهر من العام الفائت على أرض الإمارات العربية المتحدة، ومعتبرا أنها تمثل طوق نجاة لأزمات الإنسان المعاصر، ومبديا تقديره للبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على تعاونه غير المحدود لإصدار هذه الوثيقة، ووصفه بأنه رجل سلام بامتياز.
إذا كانت دروب الغد مزروعة بالفخاح فأسوأ سلوك هو التقدم بعيون مغمضة، متمنيين بأن كل شيء سيكون على ما يرام
والشاهد أن تصريحات فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب جاءت مواكبة لانعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا، ذلك اللقاء المهم جدا لأحوال المسكونة وساكنيها، والذي يوضح إلى أي حد ومد بات السلام العالمي هشا، وفرص المواجهات واحتمالات الصدام واشتعال الحروب هي الغالبة بأكثر كثيرا جدا من عالم يسوده السلام، أو يأمل على الأقل في هدنة طويلة من أجل النماء والتنمية المستدامة.
حالة الخصام التي تسود المسكونة لم تعد قاصرة على العلاقة بين البشر وبعضهم بعضا كما الحال مع الغرب، الذي انشغل طويلا في ميونيخ بالصراع المتجدد مع روسيا الاتحادية والصين، ولم تتوقف عند الإخفات بين جانبي الأطلسي من جراء رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأمريكا العظيمة ولو على حساب أوروبا، الجارة الأقرب والحليف الأكبر، بل امتدت لتصل البشر بالطبيعة، والأخيرة تبدي غضبها ورفضها للتصرفات الإنسانية الفوقية، تلك التي اعتدت على حرمتها وقداستها، وامتهنت كرامتها ومقدراتها الإلهية منذ أزمنة بعيدة، وها هي النتيجة، عالم مليء بالاضطرابات البيئية، والظواهر الأيوكولوجية المهددة للبشر والحجر من احتباس حراري إلى ذوبان الأقطاب الجليدية مرورا بتصحر الأراضي الزراعية، ووصولا إلى الهجرات البشرية المسببة للحروب من جراء المجاعات.
هل يعني ذلك أن غرق البشرية بالمعنى الواسع الكبير هو المستقبل؟ ومن أسف الذي يتهدد الإنسانية برمتها؟ وما دور الشرق في استنقاذ الخليقة من جديد؟
عدة أسئلة تنتظم في عقد واحد تجاه ما تمور به الإنسانية من قلاقل، وجد لها الداعي لكم بطول العمر رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر ضمن الدراسة الحديثة التي أصدرها منتصف العام الفائت الكاتب والروائي الكبير أمين معلوف الفرنسي الجنسية اللبناني الأصل، والذي انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية عام 2011، في المقعد الذي كان يشغله كلود ليفي شتراوس عالم الاجتماع الفرنسي الشهير.
يحمل معلوف ما يطلق عليه العالم المشرقي حملا ومسؤولية أخلاقية كبيرين تجاه العالم، حتى إن ظل تاريخ ذلك العالم ملتبس المعالم، وجغرافيته متحركة، كمجرد أرخبيل من المدن التجارية الساحلية بأغلبها إنما ليس على الدوام، ابتداء من الإسكندرية إلى بيروت، طرابلس، حلب أو أزمير، ومن بغداد إلى الموصل والقسطنطينة، وسالونكيا، وانتهاء باوديسا أو ساراييفو.
عند أمين معلوف إنه لو ظل رعايا الأمم المختلفة واتباع الأديان التوحيدية يعيشون معا في تلك المنطقة من العالم، واستطاعوا أن يحققوا الانسجام في مصائرهم، لكانت البشرية جمعاء قد شهدت نموذجا معبرا من التعايش بوئام ورخاء، تستلهمه وتهتدي به، وللأسف فقد حصل العكس، وسادت البغضاء، وأصبح العجز عن العيش معا هو القاعدة.
خبت أنوار المشرق، ثم انتشرت الظلمات في جميع أنحاء الأرض، وليس الأمر مجرد صدفة.
تعود بنا كلمات معلوف إلى "عالم الشرق الفنان" للفيلسوف المصري الراحل الكبير د.زكي نجيب محمود، والذي يصف الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين وفن وفلسفة وتعبيرات تخرج ما تضطرب به النفس من وجدان، والآن ماذا بعد أن تعرضت ثقافة ذلك الشرق للاهتراء، ونسيجه الاجتماعي للتفكك والحروب الأهلية، والدخول إلى ضيق الأيديولوجيا عوضا عن رحابة الأبستمولوجيا؟
عبر ثلاثمائة صفحة عميقة الفكر، رصينة الطرح، تشاغب العقل والفؤاد معا، يصل بنا معلوف إلى فكرة الحضارة التي تحتضر بدءا من الشرق وصولا إلى الغرب، وقد مرت عبر العشرين سنة الأخيرة بثلاث مراحل، أسس لها معلوف عبر دراساته المتميز الاستشرافية "الهويات القاتلة"، و"اختلال العالم"، ووصولا إلى "غرق الحضارات".
يخبرنا معلوف أن ألسنة اللهب التي أحرقت وسط القاهرة في يناير 1952 والتي تكشفت لاحقا الأيادي التي كانت تقف وراءها، وتلك التي أشعلت أبراج التجارة العالمية في نيويورك في سبتمبر 2001 بعد نصف قرن، إنما تعودان إلى الحريق نفسه.
استخدم معلوف التلميح لا التصريح، مبينا خطر الأصوليات المتشددة الضارة التي كانت هي عينها وراء المشهدين، أصوليات لا تعرف معنى أو مبنى للتعايش الإنساني الواحد، ولا للتسامح العضوي الخلاق، أصوليات لا تعرف الا الكراهية المؤسساتية إن جاز التعبير، العابرة للمحيطات لإشعال العالم، أصوليات لا دالة لها على طرح الأخوة أو فكر التسامح.
ليس في نية معلوف أو أي كاتب يتناول حال الكراهية في العالم التبشير بالإحباط، لكن من واجب كل إنسان، في الظروف البالغة الخطورة التي نشهدها في هذا القرن أن يظل منبرا صادقا، وجديرا بالثقة، فعندما نختار لتهدئة مخاوف أبناء عصرنا أن ننكر حقيقة المخاطر، وأن نقلل من شأن ضراوة العالم، نجازف بأن تأتي الوقائع وتكذبنا بسرعة فائقة.
إذا كانت دروب الغد مزروعة بالفخاح فأسوأ سلوك هو التقدم بعيون مغمضة، متمنيين بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
جاءت وثيقة الإخوة الإنسانية لتحيي عند العالم بشرقه وغربه الأمل في صحوة يرى معلوف أنها لا تزال ممكنة، لا سيما إذ يشق عليه الاعتقاد بأن البشرية سترضخ بإذعان لتدمير كل ما شيدته، فجميع المجتمعات البشرية وجميع الحضارات تخسر ما دمنا نضل السبيل على هذا النحو، وجميعها تربح إذا ما أاعدنا تثبيت وجهتنا، وفي اليوم الذي سندرك ذلك ستتبدل السلوكيات جذريا، ويلغى الانحراف عن المسار، وتنطلق دينامية خلاصية.
وثيقة الأخوة الإنسانية المشرقية قارب نجأة مؤكد للبشرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة