سيميبالاتينسك.. مأساة مدينة اختبر فيها السوفيات «نهاية العالم»

في سهول كازاخستان الشاسعة، نشأت "مايرا أبينوفا" شاهدةً على إرث دامٍ خلّفته 456 تجربة نووية سوفياتية.
نشأت هذه الجدة الكازاخية قرب موقع سيميبالاتينسك للتجارب النووي - المعروف باسم "البوليغون" - الذي امتد على مساحة 7,000 ميل مربع، وشهد ربع التفجيرات النووية التي شهدها العالم بين عامي 1949 و1989.
من بين أكثر هذه التجارب مرارة، كانت "البحيرة الذرية" التي تشكلت بعد انفجار قنبلة نووية بلغت قوتها عشرة أضعاف قنبلة هيروشيما، ما تسبب في تسمم إشعاعي بمعدل يفوق كارثة تشيرنوبل بـ4 مرات، بحسب صحيفة ذا صن.
وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على إغلاق الموقع في عام 1991، لا تزال المجتمعات المحيطة تعاني من آثار الإشعاع، حيث تتزايد معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض القلب والعقم والتشوهات الخلقية، فضلاً عن ارتفاع معدلات الانتحار بين الشباب، وهو ما أطلق عليه اسم "متلازمة كاينار".
وتروي مايرا بأسى للصحيفة كيف فقدت عائلتها أفرادًا عدة بسبب السرطان، بدءًا من وفاة والدتها بسرطان المريء عام 1971، مرورًا بوفاة أختها بسرطان الثدي، وزوجها بسرطان المعدة، وأخيها بسرطان الرئة، وصولًا إلى تشخيصها بنفس المرض.
وتصف الوضع الصحي في منطقتها بأنه مأساوي، حيث يفتقر النظام الطبي إلى الإمكانات اللازمة لعلاج المصابين، ويعتبر تشخيص السرطان بمثابة حكم بالإعدام المؤلم.
جواز إشعاعي.. وتعويض لا يكفي الدواء
في عام 1992 أصدرت السلطات الكازاخية قانونا يتيح للضحايا التقدم للحصول على "جواز إشعاع"، وهو كُتيب رملي اللون عليه سحابة نووية زرقاء، وهي وثائق تهدف إلى تحديد المتضررين من الإشعاع ومنحهم تعويضات مالية بسيطة وإجازات أطول، لكنها لم تكن كافية لتغطية تكاليف العلاج أو لتوفير حماية حقيقية للضحايا.
ومن المشكلات التي تواجه المتضررين أن من ينتقلون إلى مناطق أخرى يُحرمون من هذه التعويضات، كما يواجه الأطفال صعوبة في الحصول على هذه الوثائق.
كانت المنطقة تضم مدينة مغلقة تُدعى كورشاتوف، أو سيميبالاتينسك 21 سابقًا، أُنشئت كمقر للعلماء والعسكريين المكلفين بالتجارب النووية، حيث عاش سكانها في رفاهية مقارنة بالمجتمعات المحيطة التي عانت من الفقر والظروف المزرية.
كان العلماء السوفيات يضبطون توقيت التفجيرات حسب اتجاه الرياح لضمان عدم وصول الإشعاع إليهم، بينما لم يكن السكان العاديون على علم بما يحدث حتى أواخر الثمانينيات.
بحيرة ذرية:
ورغم مرور سنوات طويلة على إغلاق الموقع، لا تزال آثار الإشعاع مرتفعة، حيث تعاني الأجيال الجديدة من طفرات جينية وأمراض مزمنة.
ويستخدم بعض السكان اليوم "البحيرة الذرية" كموقع لصيد السمك، معتقدين أنها آمنة، لكن مايرا تحذر من أن المنطقة فقدت جمالها الطبيعي وأصبحت أشبه بسطح القمر، مع سهول وتلال متآكلة بفعل الانفجارات الذرية.
وفي سياق أوسع، لعب موقع سيميبالاتينسك دورًا محوريًا في سباق التسلح النووي خلال الحرب الباردة، حيث فجّر الاتحاد السوفياتي أول قنبلة ذرية فيه عام 1949، منهياً احتكار الولايات المتحدة للسلاح النووي.
وخلال أربعين عامًا، أجرت موسكو مئات التفجيرات النووية في الموقع، مما سمح لها بجمع بيانات عن القدرة التدميرية والإشعاعية، على حساب صحة السكان المحليين الذين لم يكونوا على علم بما يحدث فوق رؤوسهم.
واليوم، تسعى كازاخستان إلى مواجهة ماضيها النووي من خلال تبني سياسات شفافة بشأن الطاقة النووية والمشاركة في معاهدات دولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، كما تستضيف البنك الدولي لليورانيوم منخفض التخصيب، مما يعكس التزامها بتطوير الطاقة النووية السلمية وتعزيز السلامة النووية على المستوى العالمي.
رغم هذه الجهود، تبقى معاناة سكان المناطق المتضررة من التجارب النووية قائمة، إذ يعانون من انهيار صحي ونفسي شامل، مع نقص في الرعاية الطبية والدعم الاجتماعي، مما يجعل قصة سيميبالاتينسك واحدة من أكثر المآسي النووية إيلامًا في التاريخ الحديث.