الغياب والحضور الأوروبي في الصراع التجاري بين واشنطن وبكين
رغم التقارب بين أمريكا والاتحاد الأوروبي حول النموذج الليبرالي والديمقراطي فإنه الملاحظ غياب أوروبا عن الصراع الاقتصادي الراهن
منذ عقود عدة وتحديدا منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين توالت تقارير مراكز البحوث الاستراتيجية التي تشير إلى أن مركز الجاذبية الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية ستتحول إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ التي تتأثر الآن بنسب من إجمالي الناتج العالمي تفوق النسب التي يحظى بها الاتحاد الأوروبي منه.
الصراع التجاري والاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الذي اتخذ مسمى "الحرب التجارية" بين أكبر اقتصادين في العالم والذي نشب منذ ما يفوق العام وترتب عليه ارتفاعات متبادلة للرسوم الجمركية بمليارات الدولارات، يتركز في هذه المنطقة ويتقرر فيها مصير التجارة الدولية والاقتصاد الدولي.
ورغم التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي حول النموذج الليبرالي والديمقراطي، فإنه الملاحظ غياب الدور الأوروبي في الصراع الاقتصادي الراهن، وتقف أوروبا حتى الآن موقف أقرب إلى المتفرج منه إلى الطرف الفاعل، رغم خطورة الرهانات التي يدور حولها الصراع وانعكاساتها على التجارة العالمية والاقتصاد العالمي.
يمكن تفسير هذا الغياب الأوروبي إلى أسباب متعددة في مقدمتها سياسة ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها إزاء الحلفاء الأوروبيين والاتحاد الأوروبي، حيث تقوم الولايات المتحدة وإدارة دونالد ترامب بتطبيق "السياسة الحمائية" على العديد من المنتجات الأوروبية كما تفعل مع الصين، وإن كان ذلك بدرجات مختلفة، فالرسوم التي فرضتها الإدارة الأمريكية على الألومنيوم والصلب تؤثر على بعض الدول الأوروبية كما الصين، وتهدد الإدارة الأمريكية بالمزيد من فرض الرسوم الجمركية على النبيذ والأجبان الأوروبية وغيرها من المنتجات.
من ناحية أخرى فإن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الاتحاد الأوروبي ليست موضع ترحيب أوروبي، حيث يطالب ترامب الأوروبيين بزيادة مساهماتهم الدفاعية والمادية في "حلف الناتو" وعليهم كما يقول دفع ثمن حمايتهم، وكذلك فهو يشجع بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي ويقدم الوعود لها بعقد اتفاقية تجارة حرة ستكون الأكبر في تاريخ العلاقات بين البلدين.
تباين وتفاوت الموقف من الصين
من ناحية أخرى فإن سياسة أوروبا الخارجية ليست موحدة رغم وعي المسؤولين بأن الصين منافس قوي وخطير ولديه طموحات للهيمنة الاقتصادية على العالم، إلا أن التفاوت في مواقف الدول الأوروبية أعضاء الاتحاد الأوروبي يدفع إلى تبني مواقف مختلفة إزاء الصين، فدول شرق أوروبا بالذات المجر وبولندا تنظر إلى الصين باعتبارها مركزا لرؤوس الأموال والاستثمار والتجارة التي تحتاجها هذه الدول وكذلك اليونان، كما أن الصين قد نجحت في ضم إيطاليا إلى مبادرة الحزام والطريق.
أما ألمانيا فإنها توجه انتقادات لسياسة بكين إزاء حقوق الإنسان، وسعي الصين للهيمنة على صناعة التكنولوجيات المتقدمة، كذلك فإن المفوضية الأوروبية ترى أن الصين تروج لنموذج ونمط بديل للحكم وتطالب بتعزيز مراقبة الاستثمار الصيني وتعزيز مجالات الاتصال عن بعد ودعم الابتكار، لمواجهة نفوذ الصين والقرصنة الصينية، كما أن المملكة المتحدة البريطانية وفرنسا قد حركتا بعض القطع البحرية في بحر الصين الجنوبي، هذا التفاوت بين الدول الأوروبية سواء في الديمقراطية أو المراكز الاقتصادية أو العسكرية يعوق تبني موقف أوروبي في الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين رغم الاتفاق الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية حول منطلقات ومقدمات الموقف الأمريكي سواء تعلق الأمر بالتجسس الصناعي أو الاتهام للصين بدعم منتجاتها وتخفيض اليوان.
غياب السياسة الخارجية الموحدة
من مصلحة الصين أن تظل أوروبا عاجزة ومنقسمة حول الموقف الذي ينبغي تبنيه في مواجهتها، وأن يبقى الخلاف والتفاوت بين دول القارة إزاء الصين كمصدر للاستثمارات ورؤوس الأموال والشراكة التجارية، حيث إن الصين قد لا تطمح إلى أن تقف أوروبا معها في الصراع الراهن، لأنها في النهاية تقدم نموذجا مختلفا بالكامل مع النموذج الأوروبي الليبرالي، وكل ما تطمح إليه أن تقف على الحياد أو لا تتبنى الموقف الأمريكي بالكامل.
لقد حاول الرئيس الأمريكي ومستشاروه دفع بعض الدول الأوروبية لوقف الشراكات مع الصين في مجال شبكات الجيل الخامس، غير أن الدول الأوروبية قلقة بشأن الوقوف مع أمريكا ضد الصين على نحو مفرط قد تندم عليه لاحقا.
الموقف الأمريكي إزاء أوروبا يبدو متناقضا، ففي الوقت الذي يسعى فيه ترامب لتقويض الاتحاد الأوروبي ومعاملته كخصم اقتصادي، فإنه يطلب منه الوقوف مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين، ولا شك أن أمريكا تستند في ذلك إلى أن أوروبا قد دعمت نموها وازدهارها في ظل نظام تسيطر عليه الولايات المتحدة ووضعت دعائمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أوروبا وسياسة ترامب الحمائية
لقد ظلت أوروبا لما يزيد عن خمسمئة عام محور التفاعلات والتوازنات والصراعات في العالم، ولكنها الآن تكاد تكون غائبة رغم امتلاكها اقتصادا متقدما وثروات هائلة "ثاني أكبر اقتصاد في العالم" بعد الولايات المتحدة، والعديد من دولها تملك قدرات عسكرية بل نووية، مثل بريطانيا وفرنسا، ولديهما القدرة على نشر قوات عسكرية في أماكن مختلفة من العالم، لمواجهة الإرهاب أو مواجهة التهديدات المختلفة.
لم يخف الرئيس الأمريكي منذ البداية توجهاته إزاء الحلفاء والخصوم على حد سواء، حيث أعلن مرار وتكرار أنه مع "السياسة الحمائية" في مواجهة الجميع وبدرجات متفاوتة حسب تقديره، وقد لخص شعار حملته الانتخابية السابقة "أمريكا أولا" هذه السياسة، وقد طالت هذه السياسة الحمائية أوروبا الحليفة، فقد أدانت منظمة التجارة العالمية OMC الشركات المنتجة لطائرات "Airbus" العملاقة لحصولها على تمويل غير قانوني، وعلى الفور قامت الإدارة الأمريكية بفرض رسوم جمركية تقدر بـ7.5 مليار دولار على الواردات الأوروبية من الدول الأربع التي قامت بتمويل غير قانوني لشركات الإيرباص وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا.
لهذه الأسباب وغيرها تبدو أوروبا حذرة في تبني موقف مؤيد للولايات المتحدة الأمريكية بلا تحفظ في الصراع التجاري مع الصين، وذلك رغم اشتراك الطرفين أمريكا والاتحاد الأوروبي في الدفاع عن نظام قيم وحكم ليبرالي في مواجهة النموذج المختلف الذي تروج له الصين عبر سياستها الاقتصادية ومبادراتها خاصة "الحزام والطريق".
ويبقى في النهاية أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية وإن تركز حول التجارة والاقتصاد إلا أنه يحظى بخلفية سياسية تتمثل في حماية جزيرة تايوان التي تعدها الصين جزءا لا يتجزأ منها إن عاجلا أو آجلا، وتقليص نشاط شركة "هواوي" الصينية للمحمول وانتشار أجهزتها ومنع حصولها على المكونات الأمريكية، وإذا كان ذلك صحيحا فإنه من الصعب معرفة إلى أين يقود الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين قبل حل هاتين المعضلتين، رغم تصدر حرب التعريفات الجمركية والرسوم المشهد الراهن، وعلى الرغم من ذلك فإن تفاهما أو اتفاقا جزئيا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية يبدو أنه في الطريق إلى التوقيع بموجبه تزيد الواردات الصينية من المنتجات الزراعية الأمريكية، وقد يفتح ذلك الباب لاتفاقات أشمل في المستقبل.
aXA6IDE4LjE4OS4xNDMuMSA=
جزيرة ام اند امز