حرب التجارة بين واشنطن وبكين.. لنظريات العلاقات الدولية رأى آخر (1-2)
أهمية العودة إلى نظريات العلاقات الدولية تستند إلى تطوير بعضها لمقولات مهمة ذات صلة بتطور موجات الحمائية التجارية.
استحوذت موجة الحمائية التجارية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، والتي دشنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يوليو 2018 -فيما اصطلح عليه "الحرب التجارية"- على اهتمام كبير من جانب عديد من الباحثين والمعنيين، لكن عددا محدودا منح لقراءة هذه "الحرب" من خلال إعمال مقولات نظريات العلاقات الدولية ذات الصلة.
وتستند أهمية العودة إلى هذه النظريات ليس فقط بالنظر إلى تطوير بعضها لمقولات مهمة ذات صلة بتطور موجات الحمائية التجارية، خاصة تلك التي تنشأ بين القوة المهيمنة على قمة النظام العالمي والقوى الصاعدة، لكن أيضاً بالنظر إلى وجود علاقة قوية بين هذا المنحى في تطور العلاقات الأمريكية - الصينية من ناحية، وحالة الانتقال الجارية في هيكل النظام العالمي من ناحية أخرى، الأمر الذي يستوجب العودة إلى أبرز هذه النظريات لفهم ما يحدث ودلالاته بالنسبة لعملية تحول النظام العالمي.
هناك عدد من النظريات التي أولت اهتماماً بعملية التحول والانتقال في هيكل النظام العالمي وطبيعة العلاقة بين القوة/القوى المهيمنة على قمة النظام، والقوى الصاعدة خلال مراحل الانتقال، وشروط وكيفية حدوث هذا الانتقال، وطبيعة الأدوات المستخدمة من جانب هذه القوى لإدارة هذه المرحلة، لكن يبرز من بين هذه النظريات ما عُرف بنظرية "استقرار الهيمنة" التي تطورت على يد عدد من المنظرين أبرزهم شارليز كيندليبيرجر وستفين كراسنر وروبرت جيلبين.
وتركز النظرية على فهم حالات الانتقال على مستوى النظام الاقتصادي/التجاري العالمي، كمدخل لفهم التحول في هيكل النظام العالمي. وانطلقت من افتراض مؤاده أن بناء نظام اقتصادي عالمي حر يمثل شرطاً رئيسياً لاستقرار النظام العالمي. ومن ثم يصبح السؤال المركزي لدى النظرية: "كيف يمكن بناء نظام اقتصادي وتجاري عالمي حر؟" "وما الشروط الأساسية للوصول إلى هذا الهدف؟" بما يتضمنه ذلك من التدفق الحر للتجارة والاستثمار وحرية التحويل بين العملات.. إلخ.
نظرية "استقرار الهيمنة"
ويرجع الاهتمام الذي أولته نظرية "استقرار الهيمنة" لتحولات النظام الاقتصادي والتجاري العالمي إلى عاملين رئيسيين. الأول: يتعلق بمركزية هذه القضية خلال عقدي أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وذلك على خلفية أزمة "الكساد العالمي" التي بدأت في عام 1929، وامتدت أكثر من عقد، وما ارتبط بها من انخفاض كبير في حجم التجارة العالمية خاصة بين الاقتصادات الرئيسية في ذلك الوقت (الولايات المتحدة وأوروبا).
فقد نتج عن انتهاء الحرب العالمية الأولى عودة الاقتصادات والصناعات الأوروبية إلى العمل بشكل طبيعي، ما أدى إلى تراجع الطلب الأوروبي على السلع ورؤوس الأموال الأمريكية، ما أدى بدوره إلى حدوث انكماش داخل الاقتصاد الأمريكي وتراكم مشكلات الديون وإفلاس عدد كبير من المصانع وتسريح العمال وانتشار البطالة، وانهيار ضخم في حجم الطلب المحلي وفي حجم القدرات الشرائية.
وفي إطار سياسات مواجهة الأزمة، قامت الولايات المتحدة بسحب ودائعها من المصارف العالمية، وفي مقدمتها المصارف الأوروبية، ووقف استثماراتها في أوروبا، ما أدى لنقل الأزمة إلى أوروبا.
وقد ترتب على هذه الأزمة ليس فقط الإضرار بحجم التجارة العالمية، ولكنها أضرت كثيراً بمبادئ اقتصاد السوق وحرية التجارة بفعل اتجاه الاقتصادات الرئيسية إلى اتخاذ العديد من القرارات على حساب هذه المبادئ، مثل التوسع في الحمائية التجارية، وتأميم بعض الشركات الكبرى، وتدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والتحول إلى الاكتفاء الذاتي، فضلاً عن انهيار النظام النقدي بسبب انهيار قاعدة الذهب في بداية الثلاثينيات، وانهيار البورصات الأمريكية والأوروبية.
وقد أخذ توسع تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية غطاء نظرياً مع بدء موجة من المراجعات الفكرية للنظام الرأسمالي، خاصة تلك التي قدمها الاقتصادي البريطاني كينز الذي انتهى إلى أن الاعتماد على آلية السوق والقطاع الخاص بشكل كامل لا يضمن بالضرورة تحقق الرخاء الاقتصادي والتشغيل، ومن ثم لا بد من تدخل الدولة للتأثير في حجم الاستثمار والطلب المحلي من خلال بعض أدوات السياسة المالية والنقدية مثل تخفيض سعر الفائدة وإعادة توزيع الدخول وزيادة حجم الإنفاق العام.
العامل الثاني: يتعلق بالعلاقة القوية بين انهيار النظام الاقتصادي والتجاري العالمي عقب أزمة الكساد العالمي على النحو السابق من ناحية، وحدوث تحول في هيكل النظام العالمي والسياسات الدولية من ناحية أخرى، فبالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية السابق الإشارة إليها فقد نتج عن الأزمة عدد من التداعيات السياسية المهمة، كان أبرزها تنامي التيارات السياسية اليسارية والتيارات القومية اليمينية في أوروبا، ووصول بعضها إلى السلطة؛ ففي فرنسا حصل ائتلاف الحركات اليسارية على العدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات البرلمانية في 1932.
تحول الائتلاف بعدها إلى "الجبهة الشعبية" (تحالف الشيوعيين والاشتراكيين واليساريين) التي حصلت على الأغلبية أيضاً في انتخابات 1936، وفي ألمانيا واصلت الحركة النازية صعودها بقيادة هتلر، بحصولها على الأكثرية في انتخابات يوليو 1932، وفي الانتخابات المبكرة التي أجريت في نوفمبر 1932، ثم تولي هتلر منصب مستشار ألمانيا في يناير 1933 على رأس حكومة ائتلافية.
كما دعمت الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها من سلطة وشعبية الحزب الفاشي في إيطاليا (الحزب الوطني الفاشي) الذي كان قد وصل إلى السلطة في 1922. وكانت النتيجة النهائية لهذه التحولات -وغيرها- نشوب الحرب العالمية الثانية، وتطور نظام عالمي جديد بعد الحرب.
"العالم في كساد: 1929- 1939"
وجاءت المساهمات الأولى للنظرية على يد شارليز كيندليبيرجر في كتابه "العالم في كساد: 1929- 1939" الذي طرح فيه مقولة أساسية مفادها أن وجود دولة "مهيمنة" يُعد شرطاً أساسياً لبناء نظام اقتصادي عالمي حر واستدامة هذا النظام واستقراره، والافتراض المطروح هنا أن بناء هذا النظام واستدامته يحتاج إلى موارد مالية ليست بإمكان أي دولة توفيرها إلا الدولة المهيمنة، ومن ثم فإن غياب/أو فشل الدولة المهيمنة في توفير هذه الموارد وتحمل "التضحيات" الضرورية لحماية هذا النظام قد يؤدي إلى انهياره، وهو ما حدث خلال أزمة "الكساد العظيم" عندما فشلت الولايات المتحدة -كما ذهب كيندليبيرجر- في تحمل التكاليف الضرورية في ذلك الوقت للحفاظ على النظام الاقتصادي العالمي الحر، ذلك أنه خلال هذه الفترة نشأ صدام كبير بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حول عدد من القضايا ذات الصلة بالنظام التجاري العالمي، كان أبرزها أسعار العملات، ومدفوعات الدين، وتعويضات الحرب. لكن الولايات المتحدة لم تستطع تحمل الأعباء والتضحيات، أو فرض الترتيبات اللازمة للحفاظ على هذا النظام، ما أدى إلى انهياره في النهاية.
ووفقاً لكيندليبيرجر، فإن جميع الدول داخل النظام الاقتصادي العالمي تحقق مكاسب من التجارة الحرة والنظام الاقتصادي العالمي الحر، بغض النظر عن حجم الدولة، وأن حجم استفادة الدول الأصغر يكون أكبر من الدول الكبيرة، وذلك بالنظر إلى ضعف مساهمة الأولى في تكاليف وأعباء الحفاظ على هذا النظام من ناحية (تحررها من تكاليف الهيمنة)، وعدم خضوعها لضغوط الإنفاق العسكري الضخم للحفاظ على أمنها القومي داخل النظام من ناحية أخرى. بمعنى آخر، فإن وضع الدول الصغيرة يضمن لها الاستفادة من وضع "الراكب الحر" داخل النظام الاقتصادي العالمي.
كذلك يذهب كيندليبيرجر إلى أن جميع الدول تحقق مكاسب من نظام التجارة الحرة، بصرف النظر عن مستواها التنموي. ويستند افتراض كيندليبيرجر هنا إلى قاعدة "المزايا النسبية"؛ حيث تمتلك كل دولة مزايا نسبية في إنتاج سلع معينة بالمقارنة بباقي الدول، الأمر الذي يوفر فرصة لاستفادة كل دولة من التجارة العالمية وحرية التجارة في ظل التوزيع الأمثل للموارد وعناصر الإنتاج بشكل يضمن الاستغلال الأمثل للموارد على مستوى كل دولة وعلى مستوى الاقتصاد العالمي.
وقد وضع كيندليبيرجر خمس خدمات أساسية لا بد أن تقوم بها الدولة المهيمنة وقت الأزمات الاقتصادية للحفاظ على "النظام الاقتصادي العالمي الحر"، حددها في: ضمان حرية السوق بالنسبة للسلع الأقل وفرة، وتوفير القروض طويلة المدى خلال فترة الركود الاقتصادي، وتوفير نظام مستقر لأسعار الصرف، وتنسيق السياسات الاقتصادية الكلية، وأخيراً القيام بدور "الملاذ/ المصدر الأخير" للحصول على القروض وتوفير السيولة.
ويذهب كيندليبيرجر إلى أن هناك عاملين رئيسيين وراء اضطلاع الدولة المهيمنة بهذه المسؤولية، أولهما "المسؤولية الأخلاقية" تجاه النظام الاقتصادي العالمي الحر، وثانيهما عدم وجود دولة أخرى بإمكانها تحمل هذه التكاليف.
وحسب كيندليبيرجر، فإن انهيار الهيمنة يحدث نتيجة رفض وحدات النظام الدولي الالتزام بالقواعد التي وضعتها الدولة المهيمنة لعمل النظام الاقتصادي العالمي الحر، ربما بسبب استغلالها لوضع الهيمنة، أو لعدم العدالة في توزيع عوائد وتكاليف النظام الاقتصادي الحر وحرية التجارة، أو نتيجة لعدم قدرة الدولة المهيمنة على تحمل تكاليف بقاء هذا النظام بسبب ارتفاع هذه التكاليف، ربما بسبب تراجع قدراتها الاقتصادية أو بسبب الزيادة في التكلفة الناتجة عن حالات "الراكب الحر" (الدول المستفيدة من النظام دون تحملها تكاليف موازية).
وعلى العكس من كيندليبيرجر وكراسنر اللذين طورا مقولاتهما حول نظرية "استقرار الهيمنة" في إطار محاولة فهم التحول في النظام التجاري الحر، وشروط بناء هذا النظام والحفاظ عليه، فقد طور روبرت جيلبين مقولاته في إطار محاولة تفسير وفهم التحولات الهيكلية أو النظامية في النظام العالمي؛ حيث أولى اهتماماً أكبر بالتحول في "محكومية" النظام العالمي، بمعنى ما الدولة المسؤولة عن وضع الأنظمة والقواعد المنظمة لعمل النظام؟ وماهية هذه القواعد؟ المقولة الأساسية لدى جيلبين أن التغير الهيكلي في النظام العالمي لا يتم إلا عبر ما أسماه "حرب الهيمنة" hegemonic war، بين الدولة/الدول المهيمنة (التي تسعى إلى الحفاظ على هيكل النظام العالمي القائم) والدول الصاعدة التي تسعى إلى بناء نظام جديد عبر إعادة تشكيل القواعد والأنظمة الرئيسية لهذا النظام.
وتستقر حالة "الهيمنة" في ظل قبول الدول الرئيسية للقواعد والأنظمة القائمة. ويستند هذا القبول -وفقاً لتحليل جيلبين- إلى ثلاثة أسباب حددها في اضطلاع الدولة المهيمنة بتوفير "السلع الجماعية" collective goods، أو وجود عناصر مشتركة تجمع بينها وبين الدولة المهيمنة (الدين، الإيديولوجيا، الثقافة). وأخيراً -وهو السبب الأهم- وجود فجوة قوة بين الدولة المهيمنة وباقي دول الصف الثاني، التي تحول دون إقدام الأخيرة على تحدي هذه الهيمنة. ويلاحظ هنا أن الأدوات العسكرية والحرب هي الأداة الأساسية في بناء وفرض الهيمنة لدى جيلين.
دورة جديدة من "حرب الهيمنة"
وبعد فترة من استقرار الهيمنة، تبدأ دورة جديدة من "حرب الهيمنة"؛ حيث تبدأ القوة النسبية للقوة المهيمنة في التراجع تدريجياً لأسباب داخلية (ارتفاع نفقات الدفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع الاستهلاك الخاص والعام على حساب الإنفاق العسكري، والتحول من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الخدمي، وتراجع النموذج الأخلاقي، بالإضافة إلى تأثير ما يُعرف بقانون تناقص العوائد لعناصر الإنتاج)، وأخرى خارجية (تزايد تكاليف وأعباء حالة الهيمنة، وهي مسألة تصبح أكثر تأثيراً ووضوحاً مع صعود قوة أخرى منافسة، ما يؤدي إلى تزايد تكاليف توفير السلع العامة)، ويؤدي بدوره إلى تراجع حجم الفائض والعائدات الاقتصادية لحالة الهيمنة، ما ينتج عنه أيضاً عدم قدرة الدولة المهيمنة على توفير السلع العامة أو توفير الموارد اللازمة للحفاظ على حالة الهيمنة.
وعلى الجانب الآخر، فإن الدولة/ الدول الصاعدة ترى -في لحظة معينة- أنه لم يعد من المقبول التسامح مع النظام القائم الذي تم تأسيسه عقب آخر "حرب هيمنة"، بسبب التغير في موازين القوى التي استند إليها النظام القائم؛ حيث لا تعكس قواعد "محكومية" النظام القائم موازين القوى الجديدة، ويصبح وضع الدولة المهيمنة وامتيازاتها موضوع تساؤل ونقاش داخل النظام العالمي، الأمر الذي يمهد لبدء "حرب هيمنة" جديدة؛ حيث تكون مزايا تغيير النظام القائم عبر هذه الحرب أكبر من تكاليف قبول هذا النظام.
ورغم أنه قد يكون بإمكان الدولة المهيمنة -ولو نظرياً- تجنب هذه الحرب من خلال زيادة حجم التزاماتها الخارجية وحجم الموارد المخصصة للحفاظ على حالة الهيمنة والنظام القائم، لكن عملياً هذا لا يحدث، إما بسبب عدم رغبتها في ذلك أو عدم قدرتها على توفير هذه الموارد. وتكون النتيجة هي "حرب هيمنة" جديدة ودورة جديدة من الهيمنة.
دور الشركات متعددة الجنسية
ويشير جيلين في هذا السياق أيضاً إلى أن الشركات متعددة الجنسية هي إحدى أدوات الحفاظ على حالة الهيمنة، ولأن نجاح هذه الشركات يعتمد على هيكل العلاقات السياسية التي تؤسسها الدولة المهيمنة، فإن الأخيرة تسعى إلى ضمان إنشاء نظام تجاري عالمي حر يقوم على حرية تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، لكن مع تراجع القوة النسبية للدولة المهيمنة، فإن الاقتصادات الأخرى تبدأ في تحدي الشركات الكبرى المملوكة لهذه الدولة (من ذلك على سبيل المثال إجبار هذه الشركات على تصدير النسبة الأكبر من إنتاجها إلى الخارج، وتخفيض نسبة الأرباح الرأسمالية التي يتم تصديرها إلى الدولة الأم، وممارسة الضغوط عليها لنقل التكنولوجيات الجديدة وأنشطة البحث والتطوير إلى داخل الدولة المضيفة، وزيادة نسبة العمالة المحلية)، ما يؤدي إلى تراجع الأهمية النسبية للشركات عابرة القومية كأداة في يد الدولة المهيمنة لتطبيق سياساتها وضمان استقرار هيمنتها، ما يمهد بدوره لتعديل النظام التجاري العالمي لاحتواء مصالح القوى الصاعدة.
وهكذا يميل جيلبين إلى فهم عملية التحول في هيكل النظام العالمي عبر دورات الهيمنة التي تتم بشكل دوي عبر "حروب الهيمنة" بين "الدول المهيمنة" على قمة النظام ودول "الصف الثاني" -وهي مواجهة "شبه حتمية" من وجهة نظره- بهدف إعادة صياغة الأنظمة والقواعد المنظمة لعمل النظام العالمي القائم، وذلك ما لم تتوصل الأطراف إلى تسوية سلمية حول القضايا موضوع الصراع.
*خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في الدراسات الآسيوية