"اللا سلم واللا حرب" في التجارة الدولية
الخبراء يجمعون على أن محاولة العودة إلى الحلم بالاكتفاء الذاتي وهم، فهذا هو أوان اعتماد الاقتصاد المتبادل، أكثر من أي وقت مضى.
قيل مرارا، إن الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين كانت لهما الريادة في دفع نظام التبادل والتجارة ما بعد الحرب العالمية الثانية قدما إلى الأمام، هما الآن اللتان تدفعان الأمور حاليا إلى الاتجاه المعاكس.
وسبب ذلك هو، بالأساس، نزعة ترامب القومية (أمريكا أولا)، ومبارزاته الجمركية في مواجهة الاتحاد الأوروبي والصين وكندا وآخرين، إضافة إلى انسحاب بريطانيا -المرتبك- من الاتحاد الأوروبي.
لكن بغض النظر عن التفاصيل الكثيرة في شأن ما بات يسمى الحرب التجارية الدائرة، فإن السؤال الأساسي هو: متى تتوقف الحرب أو إلى أي مدى ستذهب؟
وما الذي يمكن أن تُسْفِر عنه في النهاية؟ وهل يمكن أن تؤدي حقا إلى تقويض المنظمات، متعددة الأطراف، التي تقوم بحوكمة النشاط التجاري والمالي والنقدي في العالم؟
البحث عن صفقات رابحة
في هذا الصدد، فإن أول ما يجب الانتباه إليه أن الولايات المتحدة تقدمت في أبريل/نيسان الماضي، بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد كندا والصين وتركيا والمكسيك.
تأتي الشكوى بسبب قيام هذه الدول بفرض رسوم إضافية على واردات من الولايات المتحدة، ردا على إجراء أمريكي سابق بفرض رسوم على واردات من الصلب والألومنيوم من تلك الدول، أكدت أنها فعلت ذلك -زيادة الرسوم- لأن لديها أسبابا قانونية.
وقالت الولايات المتحدة، إن شكواها تتفق وقواعد منظمة التجارة العالمية، واعتبرت أن ما قام به الآخرون يخاصم الممارسات التجارية السليمة، ولا يرتكز إلى سند.
ومعنى ذلك أن، وبعيدا عمن هو صاحب الحق، الولايات المتحدة ما تزال حريصة في الاتكاء على الاتفاقيات الدولية القائمة بعد "برايتون وودز 1944"، ومنظمة التجارة العالمية هي أحد أهم تجلياتها، بعد كل من البنك وصندوق النقد الدوليين.
وكلنا يذكر أنه مع اشتداد الهجوم الأمريكي على الصين، بسبب ما تعتبره الولايات المتحدة "عدم نزاهة ونقلا قسريا للتكنولوجيا الأمريكية، والجور على حقوق الملكية الفكرية، والإضرار بمصالح العمال والمزارعين الأمريكيين"، ومع الردود الصينية، التي ترفض "الابتزاز، الأنانية" و"اللعبة الصفرية" و"اصطناع عدو"، فإن كل ما تطلع إليه ترامب، حسب قوله مرارا، ليس غلق الحدود التجارية، ولكن إبرام صفقة "رائعة" أخرى، حسب التعبير المفضل لديه.
ومن المصادفات أن تأتي منذ أيام احتفالات الذكرى المئوية للهدنة التي أوصلت الحرب العالمية الأولى إلى نهايتها رسميا في وقت ذروة اشتعال الحرب الحمائية، وهي الحمائية ذاتها التي فجرت تلك الحرب، وقادت أيضا إلى الحرب الثانية، وفي الاثنتين وقعت خسائر مهولة في البشر والأصول والعمران.
وفي خطاب في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أمام مؤتمر في باريس بعنوان "منظمة التجارة العالمية.. ما هو صالح وما يجب تغييره"، قال المدير العام للمنظمة "روبرتو أزيفيدو": إن على المجتمع الدولي أن يسعى إلى تحويل أزمة التعددية الحالية إلى فرصة.. ويجب أن يبدأ أي نقاش حول المستقبل بفهم واضح للماضي (إياه).
وكشف الرجل أن الاقتصاديين بالمنظمة يقيمون مجموعة متنوعة من السيناريوهات المحتملة، بما في ذلك تأثير حرب تجارة عالمية كاملة، أي انهيار التعاون التجاري الدولي، حيث يتم تحديد التعريفة الجمركية في دول منظمة التجارة العالمية وقتها، من جانب واحد.
وجاءت النتيجة لتقول إننا سوف نرى انخفاضا في التجارة العالمية بنحو 17%.
لنعرف ضخامة الرقم أعلاه، نشير إلى أن المنظمة خفضت، في سبتمبر/أيلول الماضي، توقعاتها لنمو التجارة في 2018 إلى 3.9% بدلا من 4.4%.
وكما ترون، فالعالم مصاب بما يشبه الذعر بسبب تداعيات ذلك، ولنتخيل ماذا يحدث لو تم خفض التجارة بالنسبة العالية المذكورة أعلاه؟
ومع كل ما مضى فقد جاء خبر جيد، خلال احتفالات باريس ذاتها، ففي نفس الأسبوع، تم تعديل الالتزامات القانونية الأمريكية في منظمة التجارة العالمية، لتعكس تعهدها السابق بإلغاء دعم صادراتها الزراعية.
فمن كان يصدق أن يحدث ذلك، حيث من المعروف أن ملف الدعم الزراعي وتحرير السلع الزراعية والقطن والمناقصات الحكومية، من أصعب الملفات التي تم تداولها-ولا يزال- في أروقة اجتماعات منظمة التجارة.
مؤشرات انفتاح الصين التجاري
بالمصادفة أيضا أزيح الستار، في الأسبوع الأول من نوفمبر 2018، عن حدث فريد هو معرض الصين الأول للواردات، في إشارة واضحة إلى أن العملاق الأصفر يود أن يفتح أبوابه أمام الكافة لتحقيق منافع متبادلة من الانفتاح التجاري، وكدليل عملي لطمأنة الخائفين من إغراق الصادرات الصينية العالم وتقويض الإنتاج والتنافسية.
وأبعد من ذلك، فقد كشفت مناقشات منشورة على موقع "بروجيكت سنديكيت"، منذ نحو عشرة أيام، نقلا عن "جيم أونيل"، الرئيس السابق للبحوث الدولية في "جولدمان ساكس"، أن فائض الحساب الجاري للصين بلغ 1% من ناتجها المحلي، وكان يشكل نحو 10% منذ عشر سنوات فقط، أي منذ ما بعد الأزمة المالية العالمية مباشرة.
وهذا يعني أن الضغط الأمريكي على الصين من زاوية تشديد الجمارك على سلع بنحو 250 مليار دولار، لن يكون له الأثر، الذي تتصوره الولايات المتحدة فضلا عن أن الضغط يأتي في وقت قطعت فيه الصين شوطا بعيدا في رفع الاستهلاك المحلي كتعويض عن تراجع الصادرات المتوقع حتى من قبل ترامب، وتحتمه طبيعة التطور الاقتصادي والاجتماعي في الصين.
وقد اقترن تراجع فائض الحساب الجاري بالصعود المستمر لحصة الصين في الاقتصاد العالمي، والتي وصلت إلى 15% في 2017 بعد أن كانت 1.8% في 1978، ما يضيف تهدئة إضافية؛ لأن معناه أن التراجع في نسبة الفائض لم يأت مصاحبا لتراجع في القوة الاقتصادية.
لقد كرر كثيرون في الآونة الأخيرة أن ثلث صادرات الصين إلى الولايات المتحدة تحمل أسماء شركات أمريكية أو مدخلات ضخمة من الولايات المتحدة، وهناك اتفاق على أنه لا يجوز تقييم العجز التجاري مع الصين إلا بنظرة أوسع إلى عوائد الاستثمار الأمريكي هناك، وكذا إلى أمور مثل مشتريات الصين من أذون الخزانة الأمريكية، وأن الصين خرج منها 650 مليون رحلة سفر/فرد على أساس سنوي في 2017 للسياحة وأغراض أخرى.
وهذا يعني أن ميزانها الخدمي يتأثر سلبا لصالح الغير، ومنها الولايات المتحدة؛ ومن المعروف أن الصين صدرت بـ430 مليار دولار إلى أمريكا في 2017 واستوردت منها بـ154 مليار دولار.
وهم الاكتفاء الذاتي
لقد ذكر "موريس أوبتسفيلد"، في تقديمه للتقرير الأخير لصندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي، أن محاولة العودة إلى الحلم بالاكتفاء الذاتي المتخيل وهم، فهذا هو أوان اعتماد الاقتصاد المتبادل أكثر من أي وقت مضى، من خلال التجارة والتمويل وانتقال المعرفة والهجرة والآثار البيئية، على سبيل المثال لا الحصر.
ويمكن أن نضيف إلى موريس هنا، أن أي دولة تتخيل أنها ستصدّر فقط دون أن تستورد، هي واهمة، ومن الوهم أيضا أن تتصور كل دول العالم أنه يمكنها تحقيق فائض في وقت واحد.
في خضم الهجمات الترامبية، سيثور الحديث حول تحالف الصين وروسيا ومعهما الهند، ودور جديد لتجمع "بريكست" ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومحاولات إيجاد نظام جديد لتسوية المدفوعات، بديلا عن الدولار تدريجيا، ولجوء الصين إلى مزاحمة الصادرات الأمريكية في أسواق أخرى، عوضا عن نقص صادراتها المرتقب إلى الولايات المتحدة (لم تظهر النتائج الفعلية بعد).
كل ذلك فيه جوانب من الصحة، لكن لنتذكر أنه منذ 1995 تم جلب أكثر من 500 نزاع إلى منظمة التجارة العالمية، وتم إصدار أكثر من 350 حكما، معظمها ضد دول كبيرة.
صحيح أن شكوى أمريكا ضد الصين وآخرين، وشكوى الصين المقدمة مؤخرا ايضا ضد أمريكا، لها سياق مختلف، إلا أنها في النهاية، كما يتوقع كثيرون -ومنهم جيم أونيل الذي أشرت إليه- لن تؤدي إلى اندلاع صراعات مسلحة أو شبه مسلحة أو حتى إلى انهيار اقتصادي شامل، أو طي صفحة المنظمات الدولية، المتعددة الأطراف، كالبنك والصندوق، ومنظمة التجارة، والأمم المتحدة... إلى آخره.
مع التسليم بأن هناك، كما هو معروف، ما يعكر بقوة صفو النمو العالمي ونمو الاستثمار والتجارة، مثل الديون السيادية العالية وأزمات الأسواق الناشئة، وارتفاع الدولار، وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، والهشاشة المالية، حتى في دول كبيرة مثل إيطاليا.
كل ما يمكن توقعه أن تستمر لفترة حالة اللا سلم واللا حرب في التجارة الدولية، مع بعض المناوشات خاصة في مجال الخدمات الرقمية (نقطة التميز الأمريكي الأبرز)، بعد أن هدأ، نسبيا، غبار التفجيرات الجمركية لترامب بإبرام اتفاق "نافتا" جديد، والتوظيف المحسوب لسياسة إعفاء دول من إجراءات أو قرارات، ومعاودة تأكيد قوة الارتباط الأمريكي بدول غرب آسيا.
لكن سيظل سباق الضربات المكتومة قائما، على الأقل حتى تصحح الصين أخطاء لا تُنكَر، ارتكبتها في حق التجارة العادلة، وإلى أن يتبلور نظام جديد للقيادة العالمية.
إذا كنا قد شهدنا قبل 1975 مجموعة الخمس الكبار وبعدها السبع وبعدها العشرين، فإن الأرجح هو تطوير محسوب للقائم من مؤسسات، وجعل التمثيل فيها وهياكل التصويت منسجما مع تغيرات القوة الاقتصادية.
وسيحدث ذلك ليس لشيء إلا لأنه حكم الزمن الذي جري من قبل على بريطانيا، وسيجري الآن على الولايات المتحدة.
ليس من المعقول أن الصين التي تنتج (إيطاليا كل عامين) تظل بعيدة عن مجموعة السبع، في حين تبقى إيطاليا بين اللاعبين الكبار.