التسامح لا يعني السماح بالخروج على النظام العام، ولا امتهانا للحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها حق النفس في الحياة
شجرة الغاف التي تتجذر في أرض الإمارات منذ قرون، والتي تتعايش مع ظروف المناخ حرارة ورطوبة وندرة مياه صارت، هذه الشجرة، رمزاً لمفهوم التسامح، ومثالاً واقعياً على تجذر هذا المفهوم في ثقافة وطننا، وبمعنى التعايش مع الآخر المختلف، والانفتاح على ثقافته، وطرز حياته، وتفهم عاداته ومعتقداته، واحترام كرامته الإنسانية والتواصل والتعاون معه.
إنه مشروع تنويري، لا يقتصر على البعد الديني، وإنما هو وثيق الصلة بحياة الناس، وثقافاتهم وهوياتهم، وبتآلفهم وتعاونهم، وفهمهم بعضهم بعضا، وعدم رؤية الآخر من خلال مرآة مكسورة
والتسامح لا يعني التنازل أو إلغاء خصوصية ثقافية أو دينية، وإنما هو احترام التعددية الدينية والتنوع الثقافي، وقبول معنى الحرية، في أن يكون الآخر مختلفاً، وتعزيز مفهوم الإدراك والوعي بثقافة الآخر.
ننشد التسامح، ليس فقط كلحظة اعتراض على فكر مغلق ظلامي تكفيري، وعلى مسلكيات تطهير عرقي ومذهبي، وإنما ننشده لتأسيس وعي قيمي، وثقافة ضرورية، لإنتاج شخصية سوية، قادرة على التفاعل الإيجابي مع العصر ومقتضياته وتحدياته، وتحقيق السلم المجتمعي في الوطن الواحد، وبين شعوب الأرض.
يتعزز التسامح بالمعرفة والتواصل، والإقرار بأن البشر مختلفون بطبعهم وأديانهم، وثقافاتهم وألوانهم وألسنتهم، وأن لهم حق الحياة بسلام.
كما يتعزز من خلال حرية الفكر والإبداع، وحسن إدارة الاختلاف، وتوفير تشريعات تجسد هذه المفاهيم، وتضمن الحقوق والواجبات والمواطنة العادلة، والعدل في المعاملة مع المغايرين والمختلفين.
في ظل ثقافة التسامح، يتعزز التعايش، والقدرة على تحمل عادات وعقائد وآراء الآخر، وتقبل احتمال وقوع الخطأ.
ومن خلال إدراج قيم التسامح في نظمنا التعليمية -تلاميذ ومناهج ومعلمين وطرق تدريس وبيئة مدرسية- يتعزز وعي التلاميذ في فهم الآخر، ويتعلمون العمل معاً، ويقدرون معنى الصداقة بينهم، وكيف يتفادون العنف بينهم.
قيم التسامح تجمع وتؤلف وتقرِّب وتعين وتثري، ويشير التاريخ إلى أن منهج «صلح الحديبية»، الذي كان مع مشركين ووثنيين، كان له أثره العظيم في دخول خلق كثير إلى الإسلام، حيث دخل فيه خلال سنتي هذه المصالحة أكثر مما كان فيه قبل ذلك، وقد واجه المسلمون في مختلف الأزمنة مختلف أتباع الديانات بروح التسامح والحوار، وعاشوا معهم على مبدأ المواطنة العادلة، فعاش في ظل معظم فترات الحضارة الإسلامية اليهودي والنصراني والصابئي واليزيدي والمجوسي وغيرهم بجانب المسلم، وكان الجميع تحت حماية الدولة ورعايتها.
إن هذا الحضور الضخم لأتباع الديانات والمعتقدات والآراء كان تفعيلاً حقيقياً لروح التسامح، وعدم الإكراه في الدين، وتأكيداً على أن الطبيعة الإنسانية واحدة، وأن رسالة الإسلام كانت «الرحمة للعالمين»، الرحمة لكل البشر، والتعامل بين البشر على قدم المساواة في القيمة الإنسانية، فضلاً عن أن هذا الاختلاف والتنوع سوف يستمر، لأنه سُنة إلهية، وأن التصور أو الإدراك للعالم الإنساني هو أنه مكون من شعوب وثقافات وأمم وأعراق وألوان وأنماط عيش متنوعة، وأن الحوار والتعارف هما مفتاح إدارة الاختلاف، وتحويله إلى عمل إيجابي يُعمر الأرض، ويُولد التوادَّ، ويتعرف إلى المشتركات والمصالح الموجودة في الاجتماع الإنساني.
والتسامح لا يعني السماح بالخروج على النظام العام، ولا امتهاناً للحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها حق النفس في الحياة.
التسامح هو وعي ذاتي، فلا نستطيع أن نُجبر إنساناً على أن يكون متسامحاً، ومن هنا تبرز أهمية التربية على التسامح، وإذا كانت ركائز التعليم تتم وفق مصفوفة ثلاثية (تعلَّم لتعرف، وتعلَّم لنعمل، وتعلَّم لتكون) فإن الركيزة الرابعة الضرورية، هي (تعلَّم لتتعايش مع الآخر)، وليس فقط لمواجهة ثقافة الكراهية والتعصب والإقصاء، والرهاب من الآخر (مثال: الإسلاموفوبيا في الغرب)، وإنما للتعامل مع المتغيرات الديموغرافية والهجرات السكانية العابرة للحدود.
شجرة الغاف شعار التسامح في وطننا، هي شجرة صديقة للإنسان ولكائنات أخرى، ومصدر غذاء ودواء، ولها قدرة عجيبة على التأقلم، وتخصيب التربة، ومقاومة الجفاف لفترات طويلة، والملوحة العالية، وتحسين نوعية الهواء، وامتصاص الكربون، وتمنع زحف الرمال، ولا تتأثر بالحشرات والديدان والأمراض.
وكذلك التسامح، فثقافته لها القدرة على مقاومة الجفاف الإنساني، والتعايش والوئام المجتمعي، والانفتاح على الآخر من دون تعصب، واعتبار الآخر، ليس خصماً، بل هو «إما أخ لك في دين، أو أخ لك في الإنسانية».
إنه مشروع تنويري، لا يقتصر على البعد الديني، وإنما هو وثيق الصلة بحياة الناس، وثقافاتهم وهوياتهم، وتآلفهم وتعاونهم، وفهمهم لبعضهم بعضا، وعدم رؤية الآخر من خلال مرآة مكسورة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة