طرابلس.. من "قندهار" لبنان إلى "عروس الثورة"
المدينة المحافظة تحولت خلال الاحتجاجات، إلى مسرح يصدح بالأغاني والأهازيج الوطنية
ليل يسدل ستاره على صوت الأغاني والطبول وأجساد تتمايل على إيقاع الأهازيج الوطنية، هذه طرابلس اللبنانية التي تنتفض اليوم لترسم صورة غير تلك التي ارتبطت أبعادها بـ"قندهار".
فمنذ بداية الحراك الشعبي في مختلف مناطق لبنان، تحولت ليالي طرابلس إلى مسرح كبير يعج بآلاف المحتجين من كل حدب وصوب يتدفقون إلى ساحة عبدالحميد كرامي المعروفة بساحة النور، تنديدا بالظروف المعيشية الصعبة والبطالة والفساد.
الروح الحماسية والاحتفالية تنبعث في أرجاء المدينة، لتتحول الاحتجاجات إلى حفلة راقصة في الهواء الطلق حول مجسم كبير يعكس طابع المدينة ذات الغالبية السنية المحافظة.
يرفع المعتصمون هواتفهم الخلوية مضاءة كالشموع، ويتمايلون على إيقاع موسيقى وأغانٍ صاخبة تتنوع بين الوطنية وتلك الحماسية الرائجة في صفوف الشباب.
وباتت المدينة محط أنظار اللبنانيين ووجهة وسائل إعلام محلية تفرد هواءها للبث المباشر، بعدما كانت تتسابق قبل سنوات على مواكبة جولات اقتتال دامية.
وتقول الطالبة الجامعية أمل (22 عاما): "دفعت طرابلس ثمنا باهظا جراء النظام السياسي القائم في البلد، وكان الجميع يخاف من الدخول إلى المدينة باعتبارها متشددة".
لتستدرك بالقول إن مدينتها "عكس ذلك تماما (...) وجاءت هذه المناسبة المطلبية لنعبّر فيها عن مطالبنا بإسقاط السلطة"، مستطردة: "أنا فخورة لأنها جزء من تحرك عكس الطابع الحضاري لطرابلس".
وشهدت المدينة نزاعات عدّة على مدى عقود، والتحق مئات من أبنائها بمجموعات وفصائل مختلفة تقاتل ضد النظام في سوريا المجاورة.
وفي الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2014، شهدت المدينة 20 جولة اقتتال على الأقل بين سكان جبل محسن ذي الغالبية العلوية وسكان التبانة ذات الغالبية السنية، زاد النزاع السوري من طابعها الطائفي. وتوقفت مع فرض الدولة خطّتها الأمنية في عام 2014.
كما تعرضت لتفجيرات استهدف أبرزها مسجدين في المدينة صيف 2013؛ ما أوقع 45 قتيلا وعشرات الجرحى.
عروس الثورة
وتعد مدينة طرابلس عاصمة شمال لبنان لكنها تعاني من إهمال شديد لمرافقها ويعيش 57% من سكانها عند خط الفقر أو دونه، بينما يعاني 26% من فقر مدقع، وفق دراسة للأمم المتحدة عام 2015.
وفي الأيام الأولى للحراك الشعبي، مزّق المتظاهرون صورا لزعماء لبنانيين تنتشر في الأحياء الفقيرة وعلى المحال والأعمدة الكهربائية.
وبعدما انتشرت مقاطع فيديو مصورة في المدينة على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإعلام، انضم متظاهرون من مختلف المناطق المجاورة إلى التحرك.
ويصف محمود شواك (50 عاما)، الذي يرأس جمعية محلية تُسهم في تنظيم المظاهرات، ما تشهده المدينة بأنه "عرس بكل ما للكلمة من معنى".
واختار أحد المتظاهرين أن يطلق على المدينة لقب "عروس الثورة".
ومن اليوم الأول، بادر مهدي كريمة (29 عاما)، منسق موسيقى في المدينة، إلى تسلق سطح بناء مطل على الساحة مع عدد من أصدقائه وأجهزته الموسيقية، ليبدأ تنسيق موسيقى وأغانٍ شكلت نقطة جذب كبيرة للمتظاهرين.
ويقول كريمة، الذي لم يتخيل يوما أن مبادرته الفردية ستتحول إلى عدوى تجتاح مناطق أخرى: "قمتُ بهذه المبادرة بشكل فردي مع عدد من أصدقائي، وقد أسهمت بإعطاء طابع حضاري لمظاهرة طرابلس، وقد باتت حديث جميع اللبنانيين".
موارد مهملة
تطوعت مؤسسات محلية وأفراد لتوزيع حلويات تشتهر بها المدينة على المتظاهرين أو وجبات طعام وعبوات مياه وعصير الليمون، بينما يجد فقراء المدينة الذين يبيعون الفول المسلوق والذرة في هذه التجمعات مصدر رزق لهم.
وعلى غرار بقية المناطق اللبنانية، يتخذ الحراك المطلبي طابعا اقتصاديا بالدرجة الأولى في المدينة التي تعاني من إهمال الدولة لها؛ ما أدى إلى عدم تشغيل مرافقها الحيوية والاقتصادية وحولها لمدينة معزولة.
وتضم المدينة مرفأ ذا موقع استراتيجي بين لبنان وسوريا، بقي مهملا لأكثر من نصف قرن، بالإضافة إلى تحفة معمارية من تصميم البرازيلي أوسكار نيماير أشهر معماريي العالم في القرن العشرين، لكنها مهدّدة بالانهيار في حال لم يتم ترميمها.
وبينما تضمّ طرابلس أثرياء من سياسيين ورجال أعمال، تنقسم المدينة عموديا بين أحياء فقيرة تعاني من الحرمان وضواحٍ غنية.
وتقول وفاء خوري (48 عاما) وهي ناشطة اجتماعية: "نريد طبقة حاكمة لديها كرامة مثلنا، ونريد دولة مدنية، وفصل السلطات، وفصل الدين عن السلطة".
ويقول الطبيب والناشط الاجتماعي نافذ مقدّم (60 عاما): "تثور طرابلس، تثور لأنها مظلومة ومقهورة".
aXA6IDE4LjExNi4xNS4yMiA= جزيرة ام اند امز