احتجاجات لبنان.. بين المنظومة الطائفية وحزب الله
خطاب حزب الله كان متوقعا وهو خير معبر عن تيار سياسي يعطي لنفسه حصانة دينية وسياسية غير حقيقية
اشتعلت المظاهرات في مختلف المدن اللبنانية، وبدأت برفض السياسات الاقتصادية وفرض ضريبة على الاتصالات المجانية "واتساب" ورفض الفساد والمحسوبية، وانتهت بالمطالبة برحيل كل الطبقة السياسية الحاكمة.
ولعل التحدي الأكبر الذي تواجهه الاحتجاجات اللبنانية هو المنظومة الطائفية التي لها جذور اجتماعية واضحة، ومن جانب آخر هيمنة حزب الله، وإعلان حسن نصر الله رفضه لتغيير الحكومة وتخندقه خلف مفردات "الحزب الاستثناء" والمحصن بشعارات المقاومة والممانعة، حتى بات يقف حجر عثرة أمام أي تغيير في المنظومة الطائفية الحاكمة في لبنان.
المعادلة الطائفية الصعبة
نجحت صيغة الطائف أن تسير بلبنان بدون حروب أهلية منذ عام 1989 حتى الآن، ورغم أن هذا الاتفاق قام على المساواة في المناصب العليا بين المسلمين والمسيحيين، وفتح الباب لإعمال قيمة الكفاءة على حساب الطائفة والمذهب في المناصب الأدنى فإن الواقع بقي على حاله، وظلت المحاصصة الطائفية تحكم كل المناصب العليا والدنيا في لبنان.
صحيح أن هذا الوضع جلب استقرارا للبلد لأن الجميع اكتفى باقتسام كعكة المحاصصة الطائفية، ولكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام عمليات نهب وفساد واسعة قادها كثير من زعماء الطوائف، وسعى كل حزب لتقديم خدمات واستثناءات لأبناء حزبه/طائفته ولو على حساب الصالح العام، وظلت مشكلة الكهرباء مزمنة نتيجة ضغوط مافيا المولدات الكهربائية، وأصبح هناك في كل وزارة وقطاع من هم فوق القانون وفوق الدولة لأنهم محميون من المنظومة الطائفية الحاكمة، وينتمون لمذهب معين فلا يمكن محاسبتهم من أي شخص أو مؤسسة لا تنتمي للطائفة نفسها أو المذهب، وإلا اعتبر ذلك اعتداءً على طائفة أخرى.
معضلة نظام المحاصصة اللبناني أنه يقوم على المواءمة بين الطوائف وتلك ميزة، ولكنه أيضا فتح الباب لدرجة غير مسبوقة من التسيب والتساهل أمام حالات الفساد وسوء الأداء والإدارة، لأنها ظلت غير قابلة للمساس، ما سبب خللا في التوازنات الطائفية الحاكمة.
والحقيقة أن احتجاجات لبنان لا تواجه نظاما أو دولة مستبدة، إنما منظومة طائفية تتحكم في الطبقة السياسية اللبنانية، وتوزع على أساسها المغانم والحصص التي يصل قليل منها إلى "شعب كل طائفة"، وهي عابرة لهذه المنظومة وفي مواجهتها أيضا، ما يصعب من فرص نجاحها في التغيير الجذري.
إن مجيء هذه القوى الاحتجاجية من مبادرات أهلية مستقلة ومن كثير من الشباب المتعدد الانتماءات الدينية والمذهبية جعلها قادرة على مهاجمة كل الطبقة السياسية في البلاد، ومع ذلك فإن الأدوات التي تمتلكها القوى الطائفية الحاكمة، وتحديدا تحالف حزب الله والرئيس عون لا تزال أقوى من القوى الاحتجاجية، ومع ذلك تستطيع هذه القوى أن تخلخلها وأن تضعف من قدراتها على الهيمنة والسيطرة الكاملة.
منظومة حزب الله
خطاب رئيس حزب الله كان متوقعا وهو خير معبر عن تيار سياسي يعطي لنفسه حصانة دينية باعتباره حزب الله وسياسية باعتباره حزبا مقاوما.
والحقيقة تلك الحصانة التي فرضتها تنظيمات ودول في المنطقة العربية كانت نتيجتها كارثية على الجميع، فقبول التغيير وسلاسته النسبية في بلاد مثل مصر وتونس لم تنجر نحو الفوضى والحروب الأهلية يرجع إلى أن من حكمهما على اختلافهما كانوا رؤساء عاديين لم يضفوا على حكمهم أي حصانة خاصة، على خلاف نظم أخرى احتكر قادتها الوطنية باعتبارهم مقاومين وممانعين أو مناضلين ضد الاستعمار أو احتكروا الدين باعتبارهم زعماء ربانيين لا يخطئون لأنهم مفوضون من الله، وهؤلاء كانت نتائج حكهم كارثية في كل مكان مثل القذافي وصدام حسين وبشار الأسد ومحمد مرسي وغيرهم.
حديث نصر الله حمل تهديدا للمتظاهرين وحذرهم من التمادي في مطالبهم، وقال إنه سيحمي البلاد من الفوضى، وأن الاحتجاجات لو خرجت عن الحدود سيوقفها مثلما فعلت مليشياته في أكثر منطقة ذات أغلبية شيعية في لبنان، أو بإطلاق مسلحين على دراجات نارية لإرهاب المتظاهرين في وسط بيروت.
المؤكد أن حزب الله لن يقبل بأن تغير هذه الانتفاضة التركيبة السياسية/الطائفية الحاكمة لأنه جزء منها، وفي الوقت نفسه فإن تلك الحصانة الخاصة التي فرضها حزب الله على نفسه منذ دورة الكبير في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 كحزب مقاوم جعلته في وضع استعلائي تجاه الجميع، ولذا كان لافتا أن تخرج كل المناطق اللبنانية في مظاهرات واسعة ولم يستطع جميع قادة الطوائف الأخرى أن يعترضوها أو يقمعوها إلا حالة حزب الله الذي استخدم مع حركة أمل ما يسميه شرعية الحزب المقاوم من أجل قمع هذه الاحتجاجات في مناطق نفوذه.
تغيير المنظومة الحاكمة
يحتاج لبنان إلى منظومة حكم جديدة، لكنه لن يستطيع عبر هذه الاحتجاجات أن يخرج تماما من المنظومة الطائفية القديمة، إنما يحتاج إلى إصلاح جذري لها من خلال مجموعة من الإجراءات تبدأ باستقالة الحكومة وانسحاب عدد من قادة الأحزاب/الطوائف من صدارة المشهد السياسي، وعدم الاكتفاء باتخاذ إجراءات إدارية كتخفيض رواتب الوزراء مثلما صرح سعد الحريري، وأيضا تقديم وجوه جديدة تراعي التوازنات الطائفية الموجودة في البلاد ولا تمارس استعلاء ثوريا عليها، خاصة في ظل مخاوف قطاع واسع من المسيحيين، وإلا دخلت البلاد في وضع أسوء من الوضع الحالي، وأيضا أو ثانيا العمل على خروج مزيد من شيعة لبنان من دائرة السيطرة الحديدية لحزب الله، فلا يمكن اختزال طائفة في حزب سياسي بالإجبار، وإن خروج قطاعات من الشيعة في مظاهرات ضد الحكم الذي يمثل حزب الله ركن أساس فيه يعد بداية إيجابية.
يحتاج لبنان إلى حكومة جيل وتوجهات جديدة، ولا يمكن تخيل أن تكون علمانية تماما، إنما تفتح الباب أمام رحلة طويلة من أجل البدء في تغير المنظومة الطائفية المتجذرة مجتمعيا، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فما بالنا إذا كانت هذه الخطوة بمئة.