حين زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الإبراهيمي في أبوظبي، لم يكن الحدث مجرّد محطة بروتوكولية على هامش جولة شرق أوسطية.
فلقد دخل الرجل، بكل ثقله الرمزي، إلى المكان الذي أرادته دولة الإمارات شهادة حيّة على أن التعايش ليس فكرة تجريدية، بل هو عمران، وهوية، ومشروع سياسي وأخلاقي في آنٍ معًا.
في قلب هذا المعمار الروحي يجتمع مسجد الإمام أحمد الطيب، وكنيسة القديس فرنسيس، وكنيس موسى بن ميمون، هذا التجاور ليس فقط نداء رمزيًا للعالم، بل إعادة كتابة هادئة لمعنى الشرق، حيث لا تكون الأديان في حرب دائمة، بل في حوار دائم، حيث لا تتحوّل العقيدة إلى خندق، بل إلى جسر، يلتقي فيه المختلفون على مساحة الاحترام.
ولمن يظن أن هذه الفكرة طارئة أو دعائية، فليتأمل خارطة القدس، أو أورشليم، كما يسميها اليهود، المدينة التي لا تشبه سواها، ففيها يجتمع المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، والمعبد اليهودي، على رقعة واحدة من الأرض، تتجاور الأديان السماوية الثلاثة، ليس فقط في المعمار، بل في الذاكرة، وفي الوحي، وفي النداء إلى الإنسان، وهذه ليست مصادفة تاريخية، بل علامة أزلية على أن "الاختلاف" لا يعني الصراع بالضرورة، بل قد يعني التعدد، والاحترام، والتكامل.
القدس، التي كانت وستبقى، إحدى أهم مدن الكوكب، تُلهم من يراها جيدًا، وتُربك من يريد اختزالها في معادلات الصراع وحدها. وحين اختارت دولة الإمارات أن تطلق من أبوظبي مشروع البيت الإبراهيمي، لم تكن تسعى إلى تسويق سردية جديدة، بل إلى تذكير العالم بأن الأرض التي جمعت الرسالات، يمكن أن تكون أرض سلام، إذا ما تحررت من نزعة الاحتكار والتفوق والرفض المتبادل.
زيارة ترامب لهذا المكان تعني الكثير. فهو رجل الصفقات، والواقعية السياسية الجافة، لكن البيت الإبراهيمي لم يكن صفقة، بل هو رمز. وهو ما يُحسب للقيادة الإماراتية، التي استوعبت مبكرًا أن بناء السلام يتطلب ما هو أبعد من الوثائق، وأقرب إلى القيم.
البيت الإبراهيمي ليس مجرد مجمع ديني، إنه تجسيد عمراني لفكرة أرادها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يوم أسّس هذه البلاد على مبدأ التعايش والتسامح، لم يكن ذلك ترفًا فلسفيًا، بل قناعة نابعة من طبيعة الإمارات نفسها، دولة قامت على تنوّع الداخل، واحترام الخارج، واستيعاب الاختلاف من دون أن تتخلى عن هويتها وتقاليدها، ومنذ نشأتها، تبنّت دولة الإمارات خطًا سياسيًا مختلفًا، لا يكتفي بردود الفعل، بل يصنع الأثر.
وفي هذا السياق، تبدو أبوظبي اليوم، كما كانت دائمًا، مدينة لا ترفع الصوت كثيرًا، لكنها تقول الكثير، تفتح أبوابها لليهود والمسيحيين والمسلمين، لا باعتبارهم "ضيوفًا"، بل شركاء في المعنى، وفي بناء مستقبل تكون فيه الروح الإنسانية أعلى من الاستقطابات العقائدية.
ولعل أجمل ما في خطاب التعايش الإماراتي، أنه لا يُقدّم نفسه بوصفه بديلاً عن الانتماءات، بل هو جسر بينها، فهو لا يدعو إلى الذوبان، بل إلى التفاعل، لا يطلب من أحد أن يتنازل عن إيمانه، بل أن يسمع الآخر دون أن يجهز عليه، هذا التوازن هو ما جعل من خطاب دولة الإمارات، ليس فقط مقبولاً، بل يكون مطلوبًا، في عالم يزداد انقسامًا ويبحث عن نقطة ارتكاز.
ولهذا كله، فإن زيارة ترامب لهذا المكان، في هذا التوقيت، تعني أن العالم بدأ يُصغي لما تقوله دولة الإمارات، لا بصوت مرتفع، بل بلغة الرموز، والبناء، والعقل. فحين تقف السياسة أمام المساحات المقدّسة، يصبح السؤال: ماذا نفعل بهذه الرمزية؟ هل نستثمرها في بناء خطاب مشترك؟ أم نحولها إلى ساحة صراع على ملكية الله؟
دولة الإمارات، في هذا المشروع، اختارت الطريق الأصعب: أن تكون الدولة التي تُبادر إلى بناء المعنى، لا فقط إلى إدارة الأزمات، وأن تؤكد أن الشرق الأوسط ليس قدَرًا جغرافيًا للعنف، بل هو فضاء مفتوح على الأمل، إذا ما قررنا أن نصغي لما يقوله العقل، لا ما تصرخ به الغرائز.
بيت العائلة الإبراهيمي، إذن، هو أكثر من معمار، إنه خطاب متكامل، يُعيد رسم تموضع العرب في عصر ما بعد الانقسام، خطاب لا يُهادن في الثوابت، لكنه لا يُقصي المختلفين، يرفض التطرف، لكن دون أن يستسلم للتسييس المفرط للأديان.
في صميم هذا التعايش، تُذكّرنا دولة الإمارات بحقيقة جوهرية: أن الأديان السماوية، رغم اختلاف شرائعها، تجتمع في عبادة إله واحد، هو رب الكلّ، العالم بخفايا النفوس وبما يُصلح البشرية، فمن شريعة موسى، أولى الشرائع المنظّمة للحياة، إلى بشارة المسيح عيسى بمقدم "الفارقليط" الذي بشّر به محمد صلى الله عليه وسلم وصولاً إلى خاتمة الرسالات، نرى حكمة إلهية في تعددية مسارات الهداية. وإبراهيم، أبو الأنبياء، ليس فقط رمزاً للبيت الذي يجمع الأديان، بل هو دليل على أن الإيمان الحقّ يُنتج احتراماً للآخر، لا صراعاً معه، فالقيمة العليا للأديان ليست في احتكار الحقيقة، بل في توجيه البشر نحو الخير، وبناء مجتمعات تُقدّس الحياة الكريمة قبل أن تُنظّم الشعائر. وهذا بالضبط ما يجسده البيت الإبراهيمي: اعترافٌ بأن الاختلاف في التفاصيل لا يلغي وحدة المصدر، وأن العبرة ليست فيمن يُصلّي بأي طريقة، بل فيمن يُصلح الأرض ويعبد الله.
وحين يقف ساكن البيت الأبيض في البيت الإبراهيمي، فإن اللحظة تتجاوز الصورة. إنها إعلان عن نقطة التقاء جديدة، بين سلطة القوة، وقوة الفكرة، في مشهد يُعبّر عن التقاء مشروعين: واحد يؤمن بالتعدد، وآخر جاء ليُعيد اكتشافه، وهو إعلان من أبوظبي إلى العالم، أن هذه البلاد لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تصوغ المستقبل.. بلغة لا تصرخ، لكنها لا تُنسى، ولعلها، في ظل عالم يتشظى، تذكّرنا بأننا بحاجة إلى المزيد من البيوت التي تُبنى للقاء، لا للمفاصلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة