إن أخطر مظاهر الشعبوية، التي صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي، أنها قلَبت العلاقة بين أصحاب الفضيلة العلماء، وبين عوام الناس.
بحيث صار بعض العلماء يتملّق العوام، ويسعى لأن ينال الحظ والشهرة بينهم، بدلا من أن يُعلّمهم ويُفهمهم ويصحح أخطاءهم.
لذلك تجد أن بعضهم يسارع باتخاذ مواقف تُرضي العوام، بدل أن تُعرّفهم بالحقيقة وتدافع عنها.. وهنا يصبح العوام هم الذين يقودون العلماء والفقهاء وليس العكس، ولقد تحوّلت الرغبة في زيادة عدد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي إلى هدف في حد ذاته، وأصبح بعض العلماء يقوم بتحديد أولوياته وأجندة أفكاره ومواقفه بما يرضى عنه الجمهور ويزيد عدد المتابعين له.
ونتيجة لذلك أصبح بعض العلماء ينساقون وراء إشاعات وخرافات وأساطير لا وجود لها، ويتخذ مواقف ويُصدر فتاوى ليجيب بها عن هذه الأسئلة غير الموجودة، ويطرح قضايا وأحداثًا لم تحدث أصلاً.
وهذا الذي حدث مع ما يسمى بـ"الديانة الإبراهيمية"، والذي كان من اختراع الباحثة الدكتورة هبة جمال الدين، وهي مدرّسة بمعهد التخطيط القومي في مصر، والتي أحدثت ضوضاء كبيرة حول أسطورة "الديانة الإبراهيمية"، وكل مَن جاء بعدها لم يتحقّق من مصداقية الموضوع، وإنما انساق وراء ما اخترعته هذه الباحثة، مسلّمًا بما طرحته ومروّجا لما نشرته، والذي جاء في كتابها "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد".. والذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.. كما جاء أيضًا في كتابها "الديانة الإبراهيمية وصفقة القرن"، حيث تضمن الكتابان حشدًا من الأفكار المُعادية للمسلمين والعرب، والذي نسبته إلى "الديانة الإبراهيمية".
ثم توالت بعد ذلك كتب أخرى، أهمها كتاب عضو مجلس الشورى للإخوان المسلمين، الهارب من مصر، الدكتور إسماعيل علي محمد، والمعنون "الإبراهيمية بين خداع المصطلحات وخطورة التوجهات"، وقد تم بناء هذا الكتاب على أفكار الكاتبة المذكورة أعلاه، وبعد ذلك جاء كتاب آخر من كاتب قومي مصري، وهو الدكتور مرسي أدهم، وعنوانه "مؤامرات الإبراهيمية اليهودية وإبادة الأديان السماوية واستعباد الإنسانية".. وهذا الكتاب أيضا مبني على نظرية المؤامرة الساذجة نفسها، والتي طرحتها الدكتورة هبة جمال الدين في كتابَيها، واكتملت الدائرة بكتاب -دون مؤلف- لمركز أبحاث متخصص في "نبذ" دولة الإمارات ومعارضة كل ما يصدر عنها، وهو المركز الخليجي للتفكير، والذي نشر كتابًا بعنوان "الإمارات والديانة الإبراهيمية: تسامح ديني أم هيمنة باسم الدين"، وهذه الكتب الخمسة صدرت جميعها في عام 2021 بعد الاتفاق الإبراهيمي، وألّفها كُتابٌ يعارضون هذا الاتفاق.
وهنا، تم استغلال الدين وتوظيفه لتبرير موقف سياسي محدد من الاتفاق، باختراع ما يسمى "الديانة الإبراهيمية".
فما يتم ترويجه عن "الديانة الإبراهيمية"، وأنها عملية "إذابة للأديان الثلاثة في دين واحد"، هو أمر لا يمكن أن يقبله مسلم أو مسيحي أو يهودي.. بل إن ما تدعو إليه الإمارات فيما يتعلق برؤيتها حول التعايش والحوار بين الأديان، يؤكد احترام هذه الأديان، وبما تحمله من خصوصيات وما يجمعها من قيم مشتركة.
ومن خلال هذه الرؤية، تتبنّى الإمارات مبادرات الحوار بين الأديان للتعاون في الأمور المشتركة واحترام خصوصية كل دين.
وفي هذا الإطار، تبنّت الإمارات مبادرة "البيت الإبراهيمي"، والذي يقوم على بناء مسجد وكنيسة وكنيس، بحيث يقوم أتباع كل دين بالتعبد وفق تعاليم دينهم، مع إطلاق مبادرات تؤكد ما في هذه الأديان من قيم إنسانية تجمع كل البشر وتحمل رسالة سلام وتعايش باسم الأديان الثلاثة، وليس لها علاقة من قريب أو من بعيد بتغيير عقائد أو أحكام أي من هذه الأديان.
لذا، يتوجب على المرجعيات الدينية والعلماء أن يقوموا بواجبهم وأن يتحملوا مسؤولياتهم في إبراز الحقائق كما هي، وأن لا ينساقوا خلف أجندات تعمل على استغلال الدين وتوظيفه بما يخدم مواقفهم السياسية.. فالاتفاق الإبراهيمي ليس له علاقة أبدًا بما يُزعم أنه "ديانة إبراهيمية"، و"البيت الإبراهيمي" هو نموذج للتعايش ورسالة محبة وسلام باسم الأديان الثلاثة، تقدمها الإمارات للعالم أجمع.
نقلا عن "أخبار اليوم" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة