مع تحديد أوكرانيا ضمانات ما بعد الحرب، وما يريده جيشها من حلفائه الغربيين، ومواصلة كييف جهودها للانضمام لـ"الناتو"، سنكون أمام مرحلة مهمة في المواجهة الروسية الأوكرانية.
كل هذا مرتبط بمتطلبات إنهاء الحرب، والبدء جدّيا في مرحلة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية، في إطار الطرح الأوكراني المبدئي باستعدادها للتخلي عن هدفها المنصوص عليه دستوريًّا، المتمثل في الانضمام إلى "الناتو"، مقابل وقف إطلاق النار.
وتؤكد كييف أنها مهتمة حصرًا بالعضوية الكاملة بدلا من ضمانات أمنية، وهو ما حذر من تداعياته الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، من أن مقترحات أوكرانيا ستؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، على اعتبار أن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي سيُلزم الدول الأعضاء الأخرى بالدفاع عن أوكرانيا، ولكن السؤال: ماذا تريد أوكرانيا من ترتيبات في سياق دفاعها عن أمنها في ظل بدائل قد يفضلها الناتو في التعامل مع روسيا؟
أيا كانت العلاقة بين ترتيبات الأمن الأوروبي والحلف، فإن الاتحاد الأوروبي صار بحاجة ماسة إلى تعزيز علاقاته الأمنية مع دول جنوب المتوسط وشرق المتوسط والخليج العربي، من أجل حماية مصالحه الاستراتيجية في هذه المناطق، التي باتت محل اهتمام روسيا والصين.
وبرغم ما يُطرح روسيًّا وأوكرانيًّا، ورغم حديث روسيا عن رغبتها في استكمال المفاوضات، فإن حل الأزمة لن يكون دبلوماسيا، والصراع لن ينتهي قريبا، مع تأكيد روسيا الاستمرار في تبني الخيار العسكري، وذلك بالتركيز على دونباس، حيث لا يعني أن الرئيس الروسي بوتين في حال وجد موطئ قدم نحو تحقيق نصر كامل، سيتردد، فقد اتجه إلى الشرق مضطرا بعد ما واجه من خسائر شمالا، حيث كان هناك اعتقاد سائد بأن كييف ستسقط، إلا أن أوكرانيا حوّلتها إلى حرب استنزاف ممتدة، كما أن روسيا في حالة عودتها لكييف لن ترجع إلى تكتيكاتها القديمة، بل ستسوّي كييف بالأرض، كما حدث في ماريوبول وغالبية مناطق الشرق.
والواضح أن شحنات الأسلحة الغربية ساعدت في صمود أوكرانيا في مواجهة روسيا، حيث قام الاتحاد الأوروبي بشراء أسلحة وتسليمها لأوكرانيا في خطوة غير مسبوقة، كما فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية صارمة أكثر على روسيا، ووفقا للواقع العسكري الراهن فإن القوات الروسية تحتل حاليا نحو 20% من مجمل الأراضي الأوكرانية، وتمتد خطوط القتال الأمامية لأكثر من ألف كيلومتر.
برغم هذا التصعيد العسكري، هناك مجموعة واضحة من الشروط التي قد تسمح بحدوث انتقال إلى مرحلة أخرى من التفاوض، وأول تلك الشروط هو أن يحدث تغيير في روسيا، وهو أمر مستبعد، فالحرب في أوكرانيا هي حرب الرئيس الروسي بوتين، وكان قرار الحرب هو قراره، ورؤيته لاستعادة "روسيا الكبرى"، والبديل أن يوافق الرئيس بوتين على هدنة واحدة، في ظل استمرار القتال، وصعوبة ترسيخ المكاسب على الأرض مع وضع الأساس لاستقرار أوكرانيا وأمنها، بعد أن أصبحت دولة مقسمة ودون اقتصاد ومؤسسات فاعلة، ومع مشهد سياسي ممزق، فسيكون التوصل إلى أي استقرار بعيد المنال.
وإذا انزلقت أوكرانيا في أجواء الفوضى، فإن ذلك قد يدفع روسيا لمواصلة تدخلها العسكري، فيما قد بدأ دعم أوروبا والولايات المتحدة في مساندة أوكرانيا بالتناقص.. خاصة أن انضمام أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي ليست حلا سهلا، حيث يرى الرئيس الروسي بوتين أنه يمكن أن يكسب الحرب عبر المراهنة على أن الدول الغربية ستشعر بضعف أوكرانيا، وستركز أكثر على أزماتها الاقتصادية والتهديد الصيني.
لكن من الواضح أن الغرب سيستمر في تصميمه، وسيواصل تزويد أوكرانيا بالأسلحة، مع احتمال تحول الحرب إلى صراع دائم بوتيرة منخفضة وتصبح حربا مفتوحة.
مقابل ذلك يأتي إقدام الرئيس بوتين على وقف لإطلاق النار من طرف واحد، ويكتفي بما حققه من مكاسب على الأرض، فالمدعومون من روسيا في دونباس باتوا يتمتعون بحماية، وأقاموا ممرًّا بريًّا إلى شبه جزيرة القرم، ومن ثم يمكنهم بعد ذلك السعي لكسب موقف أخلاقي والضغط على أوكرانيا لوقف القتال.
وهناك تصور مهم يأتي في سياق قرار القيادة العسكرية في أوكرانيا -بعد أن باتت غير واثقة باستمرار الدعم الغربي- وهو أن الوقت قد حان للتفاوض الحقيقي مع روسيا، التي ستظل تخطط رغم النكسات المبكرة، التي مُنيت بها، للاستيلاء على كييف، وفرض سطوتها على كثير من أراضي أوكرانيا، ويمكن لروسيا الاستفادة من مكاسبها في دونباس وتحرير القوات لاستخدامها في أماكن أخرى، وربما حتى استهداف كييف مرة أخرى.
في المجمل، ورغم خيارات التفاوض والمواجهة المطروحة، فإن الولايات المتحدة والدول الغربية تريد أن تكون الحرب الروسية الأوكرانية استنزافًا لموسكو، وأوكرانيا تعتبرها قضية وجودية، مع نجاح الولايات المتحدة في أن تجعل أوروبا تمضي في ركابها في حرب أوكرانيا، ومن ثم فإن الحرب الروسية الأوكرانية مستمرة حتى نهاية العام على الأقل، حيث ستكون بالفعل مجابهة دولية بمعنى الكلمة، فبعض الدول الأوروبية تريد التهدئة مع روسيا، لكن الرئيس بوتين لن يرضى بنصف انتصار على الأقل حاليا، خاصة بعد أن أعلنت كييف أنها استعادت نحو 700 كيلومتر مربع في شمال شرق أوكرانيا مؤخرًا، ولا سيما مدينة بالاكليا، بالإضافة إلى نحو عشرين بلدة. وهو ما ردت عليه روسيا بنشر قوات جديدة وقامت بإجراءات لتعزيز وجودها العسكري، الأمر الذي يشير إلى تصاعد الخيار العسكري في مقابل تعزيز وتنمية فكرة التفاوض.
فرغم مرور أشهر على توقف المفاوضات، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن روسيا لا ترفض إجراء مفاوضات مع أوكرانيا، وأنه كلما تأخرت عملية التفاوض زادت صعوبة الاتفاق في ظل مطالبة أوكرانيا باستعادة كامل أراضيها، ومن ضمنها شبه جزيرة القرم.
ولحين توصل الجانبين الروسي والأوكراني إلى نقطة توافق، سيبقى احتمال إجراء المفاوضات حاليًّا مستبعدًا، خصوصا بعد أن شنت كييف مؤخرا حملة مضادة استعادت خلالها عددا من المناطق.. والواقع أنه منذ أن تراجعت روسيا عن محاولتها السيطرة على كييف، كانت أهداف الكرملين في الحرب غير واضحة، ما أربك وجهة النظر الروسية المؤيدة في ظل تضارب الأهداف وعدم وجود رؤية موحدة لاستمرار المواجهة حتى تحقيق الأهداف الروسية المخطط لها قبل بدء العمليات على أوكرانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة