من اللافت للنظر أن أغنى فترات الطفولة قد يتمتع بها أفقر الأطفال وليس أغناهم.
الفيصل هنا هو تعريف معنى "الغِنى" ذاته.. فالطفولة الغنية هي التي تزخر بالتجارب وتمتلئ بعوامل الانخراط في الطبيعة والاختلاط بالناس وتعلم الجديد في كل لحظة من عمرها.
وهنا يقدم الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي في سيرته "أيامي الحلوة" التعريف الملخص للطفولة "الحلوة".
زواج فاطنة قنديل
بدأ "الأبنودي" بحديثه عن زواج والدته برجل آخر قبل أبيه وهي بعدُ صغيرة جدا، حتى إنها كانت تلعب مع الأطفال وتهرب إلى البيت حين يخبرونها أن زوجها قادم.
وحين قرر الزوج إتمام الزواج والدخول بها أتم الأمر بطريقة عنيفة، ففرّت منه لبيت أبيها سيرًا على الأقدام ليلا، ومرضت حتى قالوا إن أجَلَها قد حان، ولم يصح بدنها إلا بعد طلاقها.
وكأننا نتحدث عن قضية العنف والاغتصاب الزوجي قبل 100 عام. موقف نسوي بامتياز من طفلة -13 عاما- حفظه "الأبنودي" عن ظهر قلب منذ طفولته.
راعي الغنم الصغير
كان كل طفل في القرية مسؤولا عن رعي أغنام منزله ومنزل آخر يجاورهم ليس فيه مَن يستطيع الرعي.. فكان الطفل "عبد الرحمن" يأخذ غنمات جارتهم "يامنة أبو العلا" للمرعى، حيث تأكل من الحشائش التي ليس لها صاحب.
وفي يوم من الأيام الشتوية اضطلع الطفل بمهمته ثم لهي عن إحدى العنزات ليلعب ككل الأطفال.. فيجدها وقد انتفخ بطنها كأنها ماتت. تسرّب الخبر إلى "يامنة" صاحبة العنزة، فأتت تهرول و"تعدّد" -تعبيرا عن الحزن- وكأن أحد أبنائها قد مات.
يذكر "الأبنودي" أن وقْع الخبر كان أصعب.. فقد كان الفلاح في وقتها يعتبر موت إحدى غنماته أو بهائمه أصعب من موت أحد أولاده، فالولد يُعوض أما الغنم فله سعر ولا يعوّض!
في نهاية الحكاية يأتي فلاح ويخلط خلطة أعشاب سحرية ويسقيها للغنمة "الميتة" لتصحو من جديد ويخبرهم أنها تناولت عُشبة اسمها "نوار عجول"، وهي عشبة مخدِّرة تسطل العنزة فتظهر كالميتة.
يتعلم الطفل شيئا فشيئا بتلك المهنة، التي يمتهنها تطوعا، أنواع النباتات شتى، حتى إنه حين يصل إلى سن معينة لا تخفى عليه نبتة واحدة على أرض بلاده تقريبا، اسمها ووظيفتها وأعراضها وفيمَ تُستخدم… إلخ.
صياد لقمة عيشه
يعرج "الأبنودي" على تجربة أخرى رائعة من تجارب طفولته، وهي تعلم الصيد، ويقول إن موسم الصيد لديهم يبدأ مع الصيف في شهر يوليو، وقد ورث الجميع تعاليمه من الآباء وأبناء العمومة. فكل الأطفال حينذاك يعلمون كيف يصطادون السمك النيلي.. وبمرور الوقت بين سنة وأخرى يتعلم الطفل منهم كيف يصنع صنارته، فلا صنانير تُباع حينذاك. فتكون صنارته من "بوصة ذُرة نيلية" وخيط طويل يسمى "الترميلة" وقطعة بوص تعوم على المياه بديلة لقطعة الفل في الصنارة الحديثة ثم الخطّاف والطعم.
ويُضطر الصياد أن يحفر في قطعة أرض طينية رطبة ليبحث عن دودة تصلح طعما للأسماك.. ثم يتعلم شيئا فشيئا التفرقة بين الأسماك من طريقة "غمزة" الصنارة.. فهو لا يرى السمك مثلما الحال في البحر الرائق.. الصيد في النيل المتعكر بالطمي شيء آخر.. فإن كانت غمزة متهوّرة مفاجئة "مندفعة بغشم" كانت السمكة "بلطي". وإن قضمت من ذيل الصنارة وجرت فهي "قرموط"، وإنْ مالت قطعة البوص بزاوية 90 درجة فهي "قرقار"، وهكذا وهكذا.
ثم يضطر ذلك الطفل، الذي يلهو طوال النهار بصيد السمك، أن يشوي وجبته التي اصطادها بنفسه على جمرات يجمعها بنفسه مع أصدقائه.. هو يلهو ولا يلهو، يلهو ليتعلم ويأكل ويجمع قوته في زمن وفي بقعة من الأرض الغِنى فيها ليس منتشرًا.. قتل الوقت حينها كان باختراع أعمال وتعلم أشياء و"الفرك" هنا وهناك للتسلية التي يكتشف بعدما يكبر أنها لم تكن مجرد تسلية، بل هي التي شكّلت هذا الرجل المبدع فيه.
تلك المرأة الغجرية، التي كانت تأتي إلى بيت الأبنودي وكانوا يسمونها "دوادة" ووظيفتها أن تقرأ رُقية معينة لا يسمعها أحد.
تفرك أذن الأبناء ليخرج في أيديها دود صغير فتزعم أنها أخرجته من آذانهم وأنقذتهم من الموت.
لم يكن "عبد الرحمن" يصدقها وقد كشف كذبها حينما لاحظ أن ذلك الدود يشبه دودة المش الأبيض قبل أن يكبر، وأن هذه المرأة تأتي بدودها معها.. غير أن أمه كانت تغضب من تفسيراته تلك وتعتبرها امرأة "مبروكة".
وبما أن الأبنودي شاعر، فقد أثرت فيه الأغنيات من قريته "أبنود" في صعيد مصر، وبانتقاله إلى محافظة قنا مع أبيه وأسرته، إلى أن وصلت به لمسلكه الذي سلكه.. بدأت برُقية أمه له من الحسد، بقولها:
"يا عين يا عانية (العين التي أقصدها)
يا خاينة يا ردية
اطلعي من عبرحمان من عشية
يا عالم بالقصد والنية
..إلخ"..
وفي قنا حينما سمع الأغنية التي تغنيها العروس قبل زفافها:
"سكين المسلخان يا أبو الحسن وسلخوني
وبالليفة والصابون وسبحوني يا أبو الحسن
وبالقناطير البيضاء ولبسوني يا أبو الحسن
وفي تاكسي العمدة وركبوني يا أبو الحسن
وفي شارع الغريبة وبرموني يا أبو الحسن
وفي البحر الكبير ورموني يا أبو الحسن"..
هل تشبّه تلك العروس نفسها بعروس النيل الفرعونية، التي كانوا يزينونها في أبهى صورها ثم يلقون بها قربانًا للنيل حتى يفيض؟.. أم إنها حكمة خالصة بأنهم يجهزونها لتكون كالأميرة حتى يلقوا بها في "البحر الكبير" وهو بحر الحياة الحقيقي لتجابه أمواجه وحدها؟
يقول الأبنودي نفسه بين جنبات كتابه عن طفولته:
"إنها طفولة غنية بكل المعايير، لا صلة لها بطفولة طفلتَي اللتين يأخذهما الباص في الصباح في ملابسهما الأنيقة، فلقد كان بعضنا لا يجرب الحموم إلا من البحر للبحر (أي من فيضان نيل لآخر)".
يبدأ الأبنودي كتابه بمقدمة أشبه ما تكون باعتذار لابنتَيه لأن تلك الحكايات من طفولته ستفوّت عليهما فرصة التظاهر أمام صديقاتهما بأنهما من الطبقة نفسها، قائلا: "لا أظن أنني سأنجح إذا حاولت إقناعهما بأن (أيامي الحلوة) تصلح مادة للفخر في هذا المجتمع المادي الذي تعيشانه".
طفولة مَن يا خال أبنودي التي تستحق لقب "غنية" ومَن يطلق عليها "فقيرة"؟؟!
عاصر الأبنودي طفلا، ككل أطفال قريته، معنى الحرية والكرامة في تصرف أمه مع زوجها الأول، ومعنى الرزق والتوكل والسعي قبل أن يتعلم أنواع الأسماك أثناء تعلمه للصيد، والتكافل الاجتماعي في أصول رعي غنم جارته التي لا تملك مَن يرعى لها، والفلكلور في الأغاني ومعاني الخرافات والحسد ومجالس الغجر، وذهب للكُتّاب ودخل تلك المدرسة الابتدائية، التي يرج القطار مبناها الخشبي لاقترابها منه حد الالتصاق.
دفع الأبنودي -ذو الست سنوات- لزميله على الدكة ذاتها رشوة كي يترك له مكانه جنب الشباك ويشاهد تصرفات ركاب القطر.
طفل 6 سنوات يدفع كي يتأمل تصرفات الناس!
بالعودة لزمننا وطفولة العصر الحديث.. الطفل الذي يقتل وقته في لعب على "تابلت" بعدة آلاف من الجنيهات.. فيصيبه تشتت الانتباه وضعف التركيز وتأخر دراسي بسبب الشاشات.. ويأتي "الباص" ليأخذه إلى مدرسة "إنترناشيونال" يدفع له فيها أبواه عشرات الآلاف، ويلبس ويخرج ويأكل بآلاف مؤلفة أخرى.. هل تُعتبر طفولته أغنى بمفهوم الغِنى المُشبَع بالتجارب والهوية ومعرفة الذات والبحث والتنقيب عن الأسرار وتنمية المهارات أم ذلك الطفل الذي كان يصطاد وجبته طوال النهار حتى "يلقف" من الجوع ويشوي سمكاته ويأكلها؟.. فلا بديل أمامه عنها إنْ فشل في مهمة الصيد إلا خبز "البتاو" الناشف في جيب جلبابه مع لبن الماعز، الذي يرعاه.
أيهما أنجح وأغنى، راعي الغنم المتأمل في الطبيعة أم لاعب التابلت المنفصل عنها؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة