هل تنوي قراءة هذا المقال بتركيز؟ أم ستعتمد على تقنية "المسح السريع" لتجميع أفكار عامة عند مستهل الجمل المكتوبة؟
في حال إكمالك القراءة، متى ستقول حان الوقت للانتهاء من هذه القراءة المرهقة لتنتقل إلى جرعة محتوى ممتع وقائم على التسلية؟
من المُرجح أن بعض المُشتِّتات قد تتجاذبك هنا وهناك، فلا مانع من الاحتفاظ بصفحة المقال تمهيدًا لقراءته في وقت لاحق.
فنّد التغير الرقمي المتسارع الذي نشهده كل يوم توقعات الباحث الكندي في نظريات وسائل الإعلام، "مارشال ماكلوهان"، التي صاغها في ستينيات القرن العشرين، والمتنبئة بتحول العالم إلى "قرية صغيرة"، فقد تحطمت قرية "ماكلوهان" وتحولت إلى غرفة صغيرة يعيش فيها أفراد العالم منعزلين عن بعضهم.
في داخل هذه الغرفة الصغيرة برزت مصطلحات جديدة ذات صلة بتأثير شبكة الإنترنت على السلوك البشري، وأبرزها "الماجريات".. وهو مصطلح استخدمه مؤرخو العصر الإسلامي الوسيط مثل "ابن خلكان"، و"السخاوي".
و"المَاجَريات" هي جمع "ما جَرى"، ويُقصد بها الأحداث والوقائع ومجريات الأمور والقضايا الصغيرة، التي لا فائدة من متابعتها، ولا تؤثر في تطوير قدراتنا العقلية والثقافية، كالانشغال بتتبع الأخبار وتعقب المهاترات الفكرية والجدل عبر مواقع التواصل وقصص الفنانين والمشاهير.. وغيرها، فضلا عن المحتوى السطحي الذي يتجه نحو التسلية "القِشْريات"، وبذلك يتحول المستخدم إلى مجرد متفرّج سلبي على مدرج الجماهير، غافلا عن المضمون الجاد المطوّر لفكره أو وعيه "اللب".
الشاهد على ذلك الدراسات العلمية، التي كشفت أن الاستغراق في "الماجريات" عبر قراءة الصحف يوميا لسنوات، لا يدعم فهمنا للواقع وتصوره بشكل صحيح، فقد اتسمت آراء القراء خلال الدراسة التي أجريت بـ"القصور والسطحية"، نظرًا لطبيعة المواد التي تفتقر إلى البُعد المفاهيمي العميق، كتلك التي تقدمها الكتب مثلا.
وفي اعتقادي أن أخبار الزلازل ومشكلات الاقتصاد والحروب والإيهام بأن العالم على شفا حفرة انهيار هي جزء من صيرورة الأحداث الكونية المتكررة، التي تفرضها علينا نواميس الحياة، لذلك فإن الأجدر بنا التركيز على نطاق تأثيرنا المُغيّر للواقع بتطوير المهارات، ورفد عقولنا بما يفيد، ما ينعكس على تحسين جودة الحياة، فيما يعمق الإفراط والانشغال بـ"الماجريات" العجز والهشاشة النفسية داخلنا.
وتأكيدا لما سبق، فقد تخلى المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، الذي يملك في رصيده أكثر من 65 إصدارًا، عن كتابة مقال أسبوعي في إحدى الصحف، خوفا من الانشغال بـ"المَاجَريات" اليومية، التي تقوّض رؤيته البانورامية للموسوعة المعرفية التي استغرق إنجازها ثلاثين عامًا.
وقد أجرى المفكر السعودي إبراهيم السكران بحثا حول تأثير "الماجريات" في حياتنا، ورغم عدم اتفاقي معه في عدد من المحاور التي طرحها، فإن ذلك لا يقلل من قيمة وأهمية الجهد المُنجز.. فهو يشير إلى الأثر الهام لـ"الماجريات" في بحثه قائلا:
"في العصر الحديث تنبّه الجزائريون خلال الاحتلال الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي إلى فطنة الفرنسيين آنذاك، فقد بدا واضحا تغاضيهم عن الأحزاب السياسية التي صارحتهم العداء، فيما كان موقفهم صُلبا عدائيا حيال (جمعية العلماء)، لإدراكهم الدور المتعاظم الذي يمكن أن تقوم به في ترسيخ القيم الأخلاقية والوعي المُحرك للشعب الجزائري (الُلب) واستشراف الأثر على المدى الطويل، بخلاف تحركات الأحزاب السياسية التي عادة ما تسقط في فخ (القشريات) المستنزفة للوقت والتفكير بسبب المهاترات والجدل واختلاف الآراء".
الملفت خلال تتبعي التاريخي لـ"الماجريات" أنها كمفهوم لم ترتبط بعصرنا التقني الحالي، فقد حذر منها الواعظ "ابن الجوزي"، الذي لم يكن يخالط الناس، خوفا من الخوض في الماجريات التي تستنزف وقته الثمين، مُشبها المُهتمين بها بـ"المتحدثين المُنشغلين بالكلام داخل سفينة تجري بهم وما عندهم خبر!".
ولا تنحصر مآلات الاستغراق في "الماجريات" على استنزاف الوقت فقط، بل تمتد إلى تحدٍّ أكبر، ألا وهو تدمير الإبداع وتشظيته، فالتشتت الرقمي يقدم محفزات شعورية وإدراكية تغير وظائف المخ، فتعصف بدوائر الأعصاب التي تدعم الوظائف الفكرية، مثل القراءة، وإتقان العمل، وأصالة الإبداع والتفكير النقدي، ومهارات التحليل، وغيرها، على حساب وظائف أخرى جديدة كالسلوك القهري للتفحص الرقمي، والنقر على النصوص التشعبية... إلخ.
وبالطبع هذا الأثر سيغير على المدى الطويل تكوين العقل البشري ليكون مختلفا عن بقية العقول على مدار التاريخ.
المشكلة تكمن في اعتقادنا الخاطئ بأننا نملك الكفاءة العالية على إنجاز أكثر من مهمة في وقت واحد، كأننا في خضم سباق محموم، وهنا يتولد مصدر الحياة البائسة المليئة بالاهتمامات المتعددة، فلا يتوفر وقت للوقوف أو التأمل قليلا، فتُنهك عقولنا، ويتولد الضغط الذهني، ما يؤدي تدريجيا إلى خلق منظومة تتسم بمعايير الجودة المتدهورة والبساطة الفكرية، بسبب انخفاض جودة الإنتاجية، وضعف مستوى الأصالة الإبداعية، والميل إلى استسهال الوصول إلى النتائج السريعة دون كدح أو تعب، وتفضيل الخيارات السهلة، فتضعف هِمّة تحصيل المعرفة الجادة، والعمل العميق، وبالتالي ينقطع حبل اتصالنا بـ"فن الحياة ومعناها"، بعد أن نتحول إلى "أكواد" آلية بأفق ضيق لا يقوى على مواجهة التحديات بعقلية مرنة متكئة على منظومة قيمية.
والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة، فالمثابرة والكدح يتفوّقان -من حيث الأهمية والتأثير- على الموهبة.
واعترف الفيلسوف وعالم الفلك الإيطالي جاليليو بأنه قبل أن يكون عبقريا كان مجتهدا مثابرا، فيقول: "لو عرفت مقدار الجهد الذي بذلته، لن تعتبرني عبقريا أبدا"، وتلك هي الشفرة الكامنة وراء كل عبقري ترك بصمة خالدة في التاريخ.
وتعضيدا لما سبق، ولأن الاستسهال أصبح معيارًا، حتى على المستوى الثقافي، برزت ظاهرة كتب "الساندوتش" الصغيرة.. مختصَرات الكتب، التي يطلق عليها في بعض الدول الغربية -لضعف قيمتها المعرفية- "شيتنج بوك/كتب الغش".. في إشارة إلى محتواها المضغوط في كبسولة سريعة الهضم، للتبرُّج الثقافي، متخذة من شكل الكتاب حجما صغيرا لا يتجاوز 10 صفحات، حتى يتزوَّد القارئ بأطراف المعرفة أو الفكرة العامة للكتاب الذي تصل صفحاته إلى 500، وهو ما لا يرقى لمَأسسة معرفة حقيقية.
يأتي كل ذلك في الوقت الذي يلتزم فيه المؤسس والمدير التنفيذي لـ"فيسبوك"، مارك زوكربيرج، جدولا روتينيا صارما للقراءة اليومية، بعد أن أعلن تأسيس نادٍ للكتب، فالقراءة لديه فعل إنساني لا يمكنه الاستغناء عنه، بحسب رأيه، وهنا تفرض نفسها الحكمة القائلة: "بائع المخدِّرات لا يتعاطاها".
على الصعيد الاستهلاكي يعيش بعض المُنساقين في تيار "المَاجَريات" أزمة ضعف الانسجام بين عالمهم الداخلي والخارجي، إذ تُسهم هذه الوسائل في إبعادهم عن حقيقتهم الذاتية وقوتهم، من خلال إدمان التصفح العشوائي، وهو ما يرتبط بظاهرة "التواء الزمن"، وهي استعارة لظاهرة فلكية افتراضية تشير إلى الانتقال من اللحظة إلى أخرى عبر فقدان الإحساس بالزمن، فتشعر أنك أمضيت ساعة بينما أنت قد استغرقتَ أكثر من 4 ساعات متواصلة.. كل ذلك وسط بهرجة مغريات التسويق المنفلت من مقود التوازن عبر "المؤثرين"، الذين تزداد قيمتهم السوقية كلما زاد عدد المتحلّقين حولهم، وضغطهم الدائم على زر "الشعور بالنقص" عند المستخدم لدفعه للشراء.
يكفي أن تكتب على محرك جوجل: "كيف أصبح..."، لتأتيك الإجابات المُعبرة عن الوعي المجتمعي العام: "جميل، غني، مليونير".
لا يمكننا تجاهل النتائج المترتبة على إدمان متابعة "الماجريات"، فبعد سنوات من الآن سيبرز أمامنا الفارق الجوهري بين "الناجح والفاشل، الواعي والمُغيب"، وكما يقال فإن الانحراف البسيط الذي لا ينتبه إليه القبطان عند تحرك سفينة قد يوجهها إلى مسار خاطئ بعد أيام في مكان بعيد.
كيف إذًا يمكن أن نحافظ على صحتنا العقلية وإنسانيتنا ونحن نعيش في عالم كهذا يتغير باستمرار؟
هذا ما أجاب عنه الكاتب مات هايغ، الذي تبنّى نهج المينيماليزم/"التقليلية" أو التبسيط، ناشدا التوازن، لا الكمال، فيقول: "تذكرْ الأشياء الأزلية حولك، أشجار النخيل، البدر، الفواكه الطازجة، الصمت العميق، الأحلام، استرخِ، كُنْ إنسانا، استمر بالنظر عبر النافذة، حافظْ على حقيقتك، تجاهل إشعارات الهاتف، تقبل ارتكاب الأخطاء، تنفَّس بحُب، حافظ على صوابك لتعزز قوتك الذاتية، العب مع الأطفال، ازرعْ نبتة، قدّر الجمال حولك، استمتعْ بكوب نَعناع دافئ، استرْخِ"!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة