في قاموس الأمم المتحدة، يُعرّف تغير المناخ بتلك التحولات طويلة الأجل في درجات حرارة الأرض وأنماط الطقس، فوقها وفي باطنها، حتى آخر نقطة في غلافها الجوي.
بين هذه النقطة، التي بكل تأكيد لم تحدد، وبين أعمق نقطة في باطن الأرض، هناك مليارات، بل مليارات المليارات من الأسرار، التي مع اكتشاف بعض منها يوما ما سنتحسَّر على كل لحظة قضيناها في حضرة مادة اسمها البلاستيك.
البلاستيك، هذه الكلمة التي اقتحمت علينا أيامنا الحلوة حين كانت أكياس الورق رفيقة كل ما هو صُلب وله وزن باستثناء الحديد، إذ أذكر أيام الثمانينيات جيدا حين كنا ننتظر أكياس الفاكهة الورقية بين يدي أبي أو أمي، كنا ننتظرها بفرحة.. كانت الفاكهة لها رائحة حقيقية.
الحقيقة كنت صغيرا على تفسير تلك الظاهرة، لماذا كانت تبقى رائحة الفاكهة الزكية، حتى إنها كانت أيضا تبقى ملء المكان على تلك المنضدة الصغيرة وسط طبق زجاجي وليس بلاستيكيا؟.. هذا الأمر زاد من شغفي لأسأل معلم مادة العلوم، وكنت في الصف الأول الإعدادي حينها، والذي قال دون تفكير: "الورق لا يتفاعل".
تفاعل! أي تفاعل يقصد؟، لم أدرك معنى الكلمة كما ينبغي، لكن ما سر حب التجار والمستهلكين في مصر لتغليف بضائعهم من الفاكهة واللحوم والأسماك المملحة "الفسيخ"، مرورا بالفلافل "قراطيس الطعمية"، وصولا إلى علب حلوى المولد "المولد النبوي الشريف"؟، كل شيء يُباع ملفوفا في ورق.
أوراق الأمم المتحدة تحدثنا اليوم بعد 40 عاما حول تغير في المناخ نتج دون أن نشعر جراء استخدامات شرهة لمادة البلاستيك، بالطبع ليس البلاستيك هو المتهم الأول في قضية تغير المناخ، فهو مجرد فرد في تشكيل إجرامي ضد الإنسانية وضد الكوكب.
على كوكب الأرض تمضي زجاجة المياه المعبأة المصنوعة من البلاستيك نحو 150 عاما حتى تتحلل.. هذه المعلومة ألقى بها خبراء المناخ في قاعة واسعة أقيم بداخلها مؤتمر عالمي لإحدى شركات المياه الغازية، في فندق شهير على ضفاف نيل القاهرة، فكانت الصدمة بالنسبة لي ليس هذا الرقم المفزع من عدد السنين، ولكن عدد زجاجات المياه المصفوفة في كل ركن من أركان القاعة الفخمة وأمام هؤلاء الذين صدموني بعدد السنين التي تحتاج إليها زجاجة واحدة.
واحدة من أهل العلم على منصة المتحدثين دعتني لأطرح سؤالا، فكانت صدمة لممثل الشركة المنتجة لهذا الكم الهائل من زجاجات المياه المنتشرة في القاعة الكبيرة، وكأنها كتيبة نظامية تنتظر إشارة قائدها من العطشى في القاعة، ليطلق رحلة عمرها 150 سنة لكل زجاجة حتى تتحلل بمجرد فتحها، فإذا كان بالقاعة -بحسب إحصاء سريع- أكثر من 600 زجاجة، فهذا يعني أنها تحتاج إلى 90 ألف سنة لتتحلل.. فسألته: ما تعليقك؟
لم يعلق الرجل ولم ترد مَن منحتني حق السؤال، وحذفتني الشركة العملاقة من قوائم حضور مؤتمراتها، وكان شرفا لي أن تغير الشركة سياسات الإنتاج بعد 8 سنوات من "موقعة الفندق"، وقرأت على عبوات الشركة نفسها في منتجع عالمي شهير في مصر عبارة على منتجاتها "صديقة للبيئة.. قابلة للتحلل"، فابتسمت.
لم تكن ابتسامتي تخص جملة "قابلة للتحلل"، وليس لها علاقة بمدة التحلل ولا كيف تتحلل المواد البلاستيكية، ولا حتى معنى "تتحلل"، ولكن ابتسامتي كانت لأنني اشتقت لرائحة الفاكهة في الكيس الورقي، وطعم طبق الفول الصباحي في "الصحن" الفخار أو الزجاجي، لا في كيس البلاستيك.
غزو البلاستيك لمناحي حياتنا الاستهلاكية يحتاج إلى إرادة وتوعية وانتفاضة علمية وبدائل آمنة، كما فعلت العاصمة الإماراتية، أبوظبي، لتعزيز الحياة المستدامة، إذ أصبح لزاما علينا جميعا أن ننقذ الأرض ومَن عليها من عناء شديد من مجرد الاستهتار بمخاطر أسلحة التدمير "البلاستيكية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة