اتجهت الولايات المتحدة لبناء تحالف أطلسي، بُنيانُه كل من أمريكا وبريطانيا وعدد كبير من الدول المُشاطئة على الأطلنطي.
وذلك في إشارة مهمة لقدرة الولايات المتحدة على التحرك تجاه محاصرة روسيا من جانب، ووقف أي تمدد لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تقودها موسكو ضمن سعيها لمواجهة التطورات الجارية في بنية النظام الدولي.
وهنا يأتي التحرك الأمريكي في مناطق متعددة لبناء مقاربات ومواقف في القلب منها الدور الأمريكي القائد، ودون التفاف بأن التجمعات الأمريكية الغربية والتحالفات التي تعمل من خلالها واشنطن، وإدارة الرئيس الأمريكي على وجه الخصوص، تبني في توقيت سريع وفي اتجاهات متنوعة، وعبر رؤية شاملة تركز على الأطلنطي دون أن تهمل المحيط الهادي، بل ومناطق جنوب شرق آسيا، وفي امتدادات مناطق التماس التي ترى فيها الولايات المتحدة مناطق نفوذ يمكن من خلالها التحرك ومد الحضور السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في إطار المتغيرات الجارية في الإقليم المتوسطي.
الواضح أن الولايات المتحدة تتحرك في عدة دوائر للحفاظ على وحدة التحالفات الغربية الأمريكية، تخوفًا من المجهول الذي يواجه السياسة الأمريكية في المديين قصير وطويل الأجل، حيث تبحث الاستراتيجية الأمريكية عن بناء تحالفات مستجدة ورؤية شاملة تنطلق من التسويق السياسي لفكرة السلام الاقتصادي والتنمية والبحث عن المشتركات، والعمل على تطوير وتنمية العلاقات الغربية الأمريكية لصالح الأجيال المقبلة.
والصحيح أن هناك جملة اعتبارات يمكن قراءتها من التوجه الأمريكي نحو إتمام مثل هذه التحالفات حاليًّا، وبعيدًا عن ارتدادات الأزمة الأوكرانية الروسية، أولها أن الإدارة الأمريكية تتخوف من انفراط عقد الناتو في الفترة المقبلة، وتتخوف من استمرار الانقسام الغربي حول تسوية الأزمة الروسية-الغربية، حيث من الواضح أن هناك بالفعل تشرذمًا في التوجهات والمواقف الغربية، خاصة في مستويات ومواقف دول شرق أوروبا، التي بدأت تطالب بمراجعات وتقييمات، إضافة للتخوف من حالة تصعيد الحرب بعد قرار الرئيس بوتين بالتعبئة الجزئية، والتي ستنقل المواجهة لفصل ثانٍ، وهو ما تتحسب له الإدارة الأمريكية، وترفضه الدول الغربية.
والصحيح أن أي تحالف غربي أمريكي لن يكون مقصورا على الأطلنطي، كمنطقة جغرافية واحدة أو نطاق استراتيجي واحد، كما يتصور البعض، فالجانب الأمريكي يتحدث عن القواسم المشتركة بين دول الأطلنطي، والتعاون في مجالات التنمية والاقتصاد والاستثمار والطاقة وغيرها.
ثانيها حرص الولايات المتحدة على مشاركة دول من خارج الأطلنطي، ما يثير إشكالية التركيز على الأولويات، التي يمكن العمل من خلالها، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة بدت كأنها تبني مواقف وتوجهات خارج الأطلنطي، ما قد يطرح تساؤلا حول كثرة التحالفات التي تخطط لها الولايات المتحدة من بناء شراكات جديدة مع اليابان والهند وأستراليا وبريطانيا ودول الكاريبي.. والتمدد بالرؤية الأمريكية إلى المحيط الهادي بأكمله.
والرسالة المهمة أن إدارة الرئيس بايدن تلاحق الزمن للوصول إلى ترتيبات أمنية وسياسية واستراتيجية قبل أن تضع الحرب الأوكرانية-الروسية أوزارها، وتحتاج إلى بناء جديد للتحالفات في عالم بات متغيرا ويحتاج إلى مقاربات ومنطلقات مختلفة، ليس شرطًا أن تكون وفق المنظومة التي عملت من خلالها السياسة الأمريكية طويلا، الأمر الذي يؤكد مخطط السياسة الأمريكية.
ثالثها اعتماد السياسة الأمريكية على ربط دول الأطلنطي، والدول المرشحة للانضمام، بروابط مهمة مع الولايات المتحدة، وهو ما يفسر إعلان الإدارة الأمريكية لتمويل أمريكي يصل إلى 100 مليون دولار لدعم البيئة والأمن البحري والاستراتيجي، وذلك في إطار مبادرات أمريكية كبرى ستُطرح حفاظًا على الترتيبات الأمنية الجارية في منطقة المتوسط.. وهذا يفسر التركيز على أنماط محددة من التجارة والاستثمار في هذه المنطقة، والتي ستتطلب دفاعات استراتيجية ومقاربة اقتصادية شاملة.
يراهن الواقع الأمريكي على الهدف الأصيل بتطويق مجالات الاستثمار والحركة الصينية تجاه الأطلنطي ودول ومناطق كبرى في العالم، ما يفسر رؤية بايدن، التي باتت تركز على التعامل العاجل في مناطق النفوذ المشتركة بين الولايات المتحدة ودول الأطلنطي.
وستعمل الولايات المتحدة على التركيز في مجال بناء التحالفات والمخاطر المشتركة والتحديات الواحدة والسياسات ذات البُعد الاستراتيجي، والانتقال من منطقة الأطلنطي لمناطق أخرى، خاصة أن الصيغة المفتوحة لتكتل الأطلنطي تسمح بذلك، وتشير إلى إمكانيات كبرى.
وبصرف النظر عن الأسباب والمبررات التي تسوقها الولايات المتحدة من "بناء تجمعات وكتل جديدة"، و"تركز على معاهدات سابقة تم إقرارها دوليا منذ سنوات طويلة"، حسبما أشار الجانبان الأمريكي والأطلنطي في إنشاء تكتل الدول الأطلنطية، ومنها الاحتكام لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتي تحدد الإطار القانوني الذي يحكم الأنشطة في البحار والمحيطات، فإن الهدف الراهن يركز أساسا على مجالات التعاون الإقليمي كرسالة أولى لإنشاء تكتل اقتصادي كبير يضم دول الأطلنطي وما يجاورها.
أخيرًا.. سيبقى التساؤل المشروع في مدى مراجعة المخطط الأمريكي في جمع مواقف دول الأطلنطي، خاصة أن هناك مساحات كبيرة راهنة بين هذه الدول والإدارة الأمريكية، إذ إن بعضها تجاوز الوصاية الأمريكية، وما زال في أذهان كثير من قادة هذه الدول ما يردده الرؤساء الأمريكيون، سواء كان ترامب أو بايدن، أن على الدول الأوروبية دفع ثمن الدفاع الأمريكي عنها.. وإعادة تأكيد "مَن ليس معنا فهو ضدنا"، وبالتالي إذا كان مطلوبا من الدول الأطلسية التجاوب مع الإدارة الأمريكية الراهنة فإن مقاربات الاقتصاد والحوار والتعاون والشراكة مهمة، وقد تكون في سياق مصالح دول الأطلنطي.. ولكن دون دور أمني أو استراتيجي تقوم به دول الناتو حتى مع استمرار الانقسامات الكبيرة بشأن الأزمة الأوكرانية-الروسية، والتي ستظل تمثل الهاجس الأكبر للسياسة الأمريكية، وستدفعها لمزيد من بناء تحالفات في نطاقها الجغرافي والجيوستراتيجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة