هل تمنح منظومة التعليم لدينا بشكل عام أبناءنا ما يؤهلهم لسوق العمل؟
نسأل هذا السؤال مع بدء موسم دراسي في معظم دول المنطقة، ومع ما يحمله من عبء على الأسر لتوفير مستوى مقبول من التعليم يمنح أبناءهم مؤهلات وقدرات تمكنهم فيما بعد للحصول على عمل ملائم وسط طفرة صناعية وتكنولوجية غير مسبوقة.
المنافسة شرسة لأبنائنا مع أقرانهم من مهاجرين لديهم ميزات تفضيلية، سواء من حيث مستوى التعليم أو الخبرات أو روبوتات أصبحت تنافسهم في المهام الخطرة بفضل منظومة الذكاء الاصطناعي.
ولنأخذ السوق المصرية كنموذج، والتي شهدت محاولات عديدة خلال السنوات الماضية لتطوير منظومة التعليم لتخريج شباب مؤهل لسوق العمل، وبحسب أحدث بيانات رسمية عن القوى العاملة للربع الثاني من 2022، ما زالت النسبة الكبرى من المتعطلين من حملة المؤهلات العليا، حيث بلغت نسبتهم من إجمالي المتعطلين "2.1 مليون شخص"، نحو 82.2%، منهم 44.1% من حملة المؤهلات الجامعية وما فوقها.
وبالعودة 15 عاما للوراء، كان مركز تحديث الصناعة المصري، والذي يعمل على تطوير منظومة الصناعة في مصر بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، أعلن عن نحو 1000 وظيفة شاغرة في المصانع، التي تتعاون مع المركز، وتقدَّم لهذه الوظائف وفق حوار أجريته مع رئيس المركز آنذاك نحو 50 ألف خريج، وتم تصفيتهم في أول مستوى إلى نحو 6 آلاف خريج، ومع نهاية التصفيات كاملة لم يكن مناسبا منهم لهذه الوظائف سوى 600 شاب وشابة.
هذه البيانات والتجارب الفعلية تعكس أنه لا تزال هناك حلقة مفقودة بين ما يحصل عليه الخريجون من مهارات وما تحتاج إليه سوق العمل، وهو ما يمكن أن نسميه بـ"حوار الطُرشان"، حيث إن منظومة التعليم لا تزال تُلقي بمئات الآلاف سنويا من الخريجين في سوق العمل دون منحهم أولويات تؤهلهم فعليا لخوض منافسة حقيقية في هذه السوق، التي تبحث من جهتها عن مؤهلات لا تتوفر في هؤلاء الخريجين.
ورغم أن هناك محاولات جادة لتطوير منظومة التعليم في مصر وفق استراتيجية 2030، منها على سبيل المثال مدارس "مبارك كول" ومدارس "ستيم" ومدارس "النيل"، فإنها في النهاية لا تصل إلى القاعدة العريضة من أبنائنا، ولا يزال بعض منها محدودًا ومقصورًا على فئات لديها إمكانات مادية تفوق قدرة الطبقة المتوسطة، لكن الكتلة الكبرى من أبنائنا لا تزال ضمن منظومة التعليم "التلقيني"، حتى في ظل محاولات الثلاث سنوات الماضية لتطوير منظومة الثانوية العامة، التي لا تزال في طور التجربة، سواء للأسر أو للمسؤولين عنها.
وإذا انطلقنا إلى منظومة التعليم وتأثيرها في قدرات الدول على المستوى العالمي، فهناك خمس دول تمتلك النصيب الأكبر من السكان المتعلمين تعليما عاليا، وهي: الصين والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة، والأخيرة مهددة بفِقدان مكانتها كأكبر دولة تمتلك عمالة ماهرة لصالح الصين والهند، مع تراجع مستويات التعليم بها خلال الحقبة الماضية، كما أن ريادة الصين والهند التعليمية مرجح أن تقود إلى تغييرات في الجغرافيا السياسية والاقتصادية، وهو أمر من شأنه تقويض أسبقية الولايات المتحدة، ما يفرض عليها تبني سياسات خلاقة لتحقيق التميز التعليمي في المستقبل للحفاظ على ريادتها الاقتصاد العالمي.
التعليم هو أحد مقومات تنمية رأس المال البشري، حيث تشير التقديرات إلى وجود علاقة طردية بين زيادة نسبة المتعلمين وزيادة الإمكانات الإنتاجية على المستوى الوطني لأي دولة، خاصة أن العالم يشهد في اللحظة الراهنة طفرة صناعية وتكنولوجية غير مسبوقة، للحد الذي دفع إلى تسمية هذه المرحلة من التاريخ الإنساني بـ"الثورة الصناعية الرابعة"، كونها ستغير مستقبل مختلف القطاعات الصناعية والتكنولوجية في الدول كافة، وبشكل جذري، وهو ما يتطلب أن تكون مخرجات التعليم مواكبة للمستوى نفسه من التطلعات، التي ترافق تلك الثورة في تغيير مستقبل العالم.. فكيف لمخرجات التعليم الحالية أن تنافس خلال هذا العصر، الذي أصبح الذكاء الاصطناعي أحد أبرز تجلياته؟
يشير هذا المفهوم إلى الطريقة، التي يتم بها تصميم الأجهزة والحواسيب والروبوتات، بما يجعلها تحاكي قدرات التفكير لدى البشر، من قبيل تحليل البيانات والاستدلال المنطقي والوصول إلى النتائج بدقة متناهية وسرعة فائقة، وصارت فيه الروبوتات منافسًا للبشر في بعض الصناعات.
لا بد من العودة إلى إعادة النظر من جانب بعض دول المنطفة في آليات ومضمون تطوير منظومة التعليم، والتي هي إحدى أدوات تطوير كفاءة عنصر رأس المال البشري لمواجهة عصر الروبوتات، بحيث يتمكن أبناؤنا من امتلاك المهارات الحديثة، التي تحتاج إليها سوق العمل، التي تشمل: القدرة على التواصل والعمل الجماعي والمرونة والقدرة علـى حل المشكلات والتفكير النقدي وتحليل البيانات الكبيرة واكتساب مهارات ريادة الأعمال.
ولدعم الأهداف السابقة، فمن الضروري العمل على سد الفجوة الرئيسة بين احتياجات القطاعات الإنتاجية ومخرجات قطاع التعليم، عبر تطوير وتحسين البنية التحتية لقطاع التعليم، خاصة التعليم الفني ومراكز التدريب.
على مستوى التعليم الفني، هناك ضرورة مُلحة لزيادة مخصصات الإنفاق الموجه لتلك النوعية مـن التعليم، حيث إن الزيادات السنوية، التي يتم تخصيصها لتنمية قدرات المعلمين وتزويد المدارس بالأجهزة اللازمة للتعليم، تُعدُّ محدودة، وغالبيتها زيادات نقدية يتلاشى أثرها الإيجابي مع الزيادات الطبيعية في معدلات التضخم.. فزيادة الاستثمارات العامة، التي تستهدف تحسين المدارس الفنية وتطوير المناهج المهنية وربطها بالمتطلبات الحقيقية لسوق العمـل، تُعـد عاملا محوريا لتعزيز الترابط بين التعليم الفني ومتطلبات سوق العمل.
وعلى مستوى التدريب المهني، فيستلزم الأمر مراجعة دورية لخطط ربط محتويات برامج التدريب المهني باحتياجات سوق العمل، من خلال مشاركة مستمرة وفعالة من قبل أرباب الأعمال في تصميم برامج التدريب المهني.
المواءمة بين قطاع الأعمال والتعليم صارت أمرًا مُلحا، والمؤسسات التعليمية عليها العبء الأكبر باعتبار أن الطالب يقضي فيها وقتا طويلا من حياته، وهي عمليا تشكّل توجه وسلوك وميول الطالب، ولكن تبقى هناك مسؤولية على قطاع الأعمال باعتباره المستفيد من القوى العاملة، كما أن دور الأسرة مهم في التحفيز والتوجيه للنشء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة