واقعيا، بدأ عهد رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة، ليز تراس، منذ ما يزيد قليلا على أسبوع.
أي بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية.. فطوال فترة الحداد على الملكة كانت الحياة السياسية متوقفة، والحكومة والبرلمان معطَّلَين.. وما خرج به الاجتماع الأول للحكومة الجديدة جلب على البلاد أكبر هبوط في تاريخ الجنيه الإسترليني مقابل الدولار.
لم تفعل "تراس" إلا ما وعدت به في حملتها الانتخابية.. وهو الإعلان عن خطة طوارئ لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة وكلفة المعيشة في البلاد.. ولكن هذه الخطة، القائمة بشكل جوهري على تقليص الضرائب، أثارت قلق المستثمرين وخشية المؤسسات المالية من تدهور أوضاع الخزينة وتراكم ديون الدولة، وهذه المخاوف خسفت بسعر الجنيه الإسترليني.
يحاول البنك المركزي البريطاني، بنك إنجلترا، على مَضَض، احتواء آثار خطة "تراس" على العملة المحلية من خلال إجراءات طارئة، تتمثل في شراء سندات حكومية طويلة الأجل، وتأجيل مبيعات الديون التي كان من المخطط لها أن تبدأ الأسبوع المقبل.. ولكن لا توجد ضمانات بوصول الأسواق إلى الاستقرار المنشود من خلال ما فعله البنك.
لم تنتهِ مشكلات البداية المتعثرة لـ"تراس" عند تراجع الجنيه الإسترليني.. فخطة الدعم نفسها، التي قررت الحكومة بدء تنفيذها مطلع نوفمبر المقبل، تعرضت لموجة انتقادات داخلية حادة.. حتى إن صندوق النقد الدولي حذّر من أنها "قد تصنع مفعولا عكسيا لما هو متوقع وتؤدي إلى ارتفاع جديد في كلفة المعيشة على البريطانيين بدلا من تخفيضها".
في خطابها أمام المؤتمر السنوي لحزب العمال المعارض، قالت راشيل ريفز، وزيرة المالية في حكومة الظل، إن الوضع الآن يمثل "حالة طوارئ وطنية"، وتراجُع الجنيه الإسترليني سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد والاقتراض بشكل حاد.. كما شبّهت "ريفز" رئيسة الحكومة ووزير الخزانة كواسي كوارتنغ بأنهما "مقامران يائسان في صالة قمار".
ثمة أسئلة كثيرة في خطة "تراس" الاقتصادية لا تزال معلّقة.. من بينها التساؤل الجوهري المتمثل في قدرة الخطة على مساعدة الفقراء وليس الأغنياء، على تجاوز تداعيات التضخم وارتفاع أسعار السلع في البلاد.. وهو ما يذكّر بوزير الخزانة الأسبق، منافس "تراس" على رئاسة الحكومة، ريشي سوناك، حين كان يشكك في جدوى الخطة.
اللا واقعية، هي الصفة التي أطلقها "سوناك" على خطة الطوارئ، التي تبنّتها "تراس".. ويبدو أن هذه الصفة لن تصبغ فقط الشق الاقتصادي في عمل رئيسة الوزراء.
المساعي الجديدة لـ"تراس" بشأن تخفيف قواعد الهجرة بغرض العمل إلى بريطانيا لاقت أيضا معارضة داخلية شديدة، حتى من حزب المحافظين والحكومة نفسها.
صحيفة "التايمز" البريطانية قالت إن العديد من وزراء "تراس"، بمن فيهم وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، ووزير الأعمال جاكوب ريس موج، أبدوا مخاوف كبيرة بشأن تسهيل قواعد الهجرة إلى المملكة المتحدة، وقالوا إن الكم، وليست النوعية في القادمين، هو ما ستحصده البلاد جراء محاولات رئيسة الحكومة تخفيف شروط استقدام العمالة الأجنبية إلى البلاد.
وتثير خطوات "تراس" المخاوف إزاء مستقبل العلاقات الخارجية للمملكة المتحدة في عهدها.. وقد أشار استطلاع حديث للرأي إلى عدم ثقة فئة كبيرة من البريطانيين بقدرة "تراس" على تعزيز العلاقات الخارجية لبلادها.. خاصة مع استمرار مشكلات "بريكست" مع الاتحاد الأوروبي، واتساع "تباينات" دول الغرب إزاء أوكرانيا.
استهزاء "تراس" بتهديد روسيا النووي، يعد من علامات بداياتها المتعثرة، ولا واقعية خططها المستقبلية.. كما أنه نقطة تباين واضحة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.. فبروكسل ترى ضرورة في التعامل بجدية مع تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين الأخيرة، ولندن تقول إن بوتين "يعاني اليأس".
قد يصح تقدير لندن إزاء عدم جدية روسيا في اللجوء إلى السلاح النووي.. ولكن "يقين تراس" تجاه خسارة بوتين الحرب، وعدم اكتراثها بخشية الأوروبيين من إقدام هذا "الخاسر" على خطة ردع نووية، إنما يدلل بوضوح على تباين الرؤى بين الحلفاء الغربيين إزاء ما آلت إليه الأمور في أوكرانيا، وأين يجب أن تمضي مسارات الحرب بعد اليوم.
لا تفكر لندن بفك ارتباطها مع واشنطن في التصعيد ضد روسيا عسكريا.. رغم أن هذا الارتباط لا يسهّل على رئيسة الوزراء حلحلة المشكلات الداخلية والخارجية لبلادها.. ويبدو أن كلمة السر في عهد "تراس" ستكون المواجهة مع الخصوم، أيا كانت النتائج، ومهما واجهت الخطط من عثرات، أو استندت إلى أفكار غير واقعية.. ولكن كما يقول العالم الألماني ألبرت أينشتاين: "إذا كنتَ تخشى الخيبة، فتجنب الثقة المطلقة من البداية!".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة