بدا المشهد الإيطالي، الأسبوع الماضي، مثيرا وغريبا إلى أبعد حد ومد.
ذلك أنه فيما كانت تدور عجلة الانتخابات السياسية، لتفرز نصرًا واضحا للتيار اليميني المتشدد، كان الفقير وراء جدران الفاتيكان، البابا فرنسيس، ومن فوق كرسيّه المتحرك، يجاهد ضد التيار، سائلا البحث عن التزام البشرية بناء مستقبل أكثر إدماجا وأخوَّة.
كيف يمكن للمرء أن يفهم هذا التضاد الجوهري، والذي لا يتوقف في واقع الأمر، وكما أشرنا في مقال الأسبوع الماضي، عند حدود إيطاليا، بل بات ينسحب كذلك على كثير من الدول الأوروبية، وربما نشهد صورة أمريكية مخيفة منه، خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، عبر انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي.
فلنبقَ في أوروبا في هذا السطور، ولنا قراءات قادمة بأمر الله مع أمريكا، مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
نجحت جورجيا ميلوني، على رأس حزب "إخوة إيطاليا"، والاسم في حد ذاته يعيد سيرة جماعة بعينها، عرفها العالم العربي والشرق الأوسط، تمحورت حول ذاتها، واعتبرت أنها صاحبة الحق المطلق، ومَن خارجها ليسوا إخوة، بل أعداء، قبل أن يقدَّر للمنطقة الخلاص منها، وإن بقيت تبعاتها الفكرية.
تبدو الأيديولوجيات العنصرية متشابهة، وهذا ما نبّه إليه الكاتب المصري الكبير الراحل، توفيق الحكيم، ذات مرة، حين قال: "إن تحت جلد كل أيديولوجي عنصريا إرهابيا، يبدأ من عند الفكرة ويمتد إلى الواقع".
نجحت السيدة ميلوني، وهذا أمر يُحترم بكل تأكيد، لا سيما أنها إرادة الناخبين الإيطاليين، لكن الفوز يحمل في طياته، مخاوف من تشدد قد يفتح الباب لحركات فاشية معاصرة، تبدأ من طرف المحاججة بالحق في التمتع بثروات البلاد الاقتصادية، وحجبها عن الآخرين، وربما تنتهي بصراع عقدي ودوجمائي مع غير مواطنيهم، وحَمَلة الجنسية الإيطالية من أعراق وأديان أخرى، ناهيك بالرفض الكلي لفكرة الاندماج، أو قبول مزيد من المُهانين والمجروحين في كرامتهم، أولئك الهاربين من جحيم الموت في بلادهم المنكوبة.
لا جديد لدى السيدة ميلوني، فالأفكار اليمينية تتشابه، من السويد إلى إيطاليا، مرورًا بالمجر، وقبلهما فرنسا وألمانيا، غير أن ما يلفت النظر في المشهد الأوروبي ويعطي دفْقا لا ينقطع من الأمل وجود رجال أوروبيين متجردين من تلك العنصريات ومرجعيات مؤسساتية، قادرة على خلق طريق ثالث بين اليمين المتشدد واليسار الجاف.
في رسالته المعروفة باسم Fratelli tutti يتحدث البابا فرنسيس عن "أسرة إنسانية واحدة"، يتوجب عليها السير معا على الطرقات، لا سيما في أوقات الأزمات، وقد جاءت أزمة فيروس كوفيد-19 الأعوام الثلاثة المنقضية، لتقطع بوحدة الجنس البشري، من غير محاصصة ولا تمايز، طائفي أو عرقي أو جندري.
نهار انتخابات إيطاليا الأخيرة، كان فرنسيس يُنهي بضعة أيام في مدينة أسيزي، في إطار حدث دولي عُرف باسم "مبادرة اقتصاد فرنسيس"، والتي تسعى إلى خلق اقتصاد عالمي جديد، مغاير لحالة الرأسمالية المتوحشة، التي سادت العالم في عقود الليبرالية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
في مبادرة "اقتصاد فرنسيس"، تبدو الاهتمامات واضحة بالخليقة، وتطورات أحوالها الإيكولوجية المهترئة، إلى الدرجة التي أضحى فيها بيتنا المشترك "يسير نحو الدمار"، بحسب بابا روما.
يحلّق فوق إيطاليا وعموم أوروبا اليوم، تضادّ واضح، بين انعزالية ضيقة الصدر والروح والعقل، وسردية من الاقتصاد الجديد المُحب للبيئة، الصديق للأرض، الساعي في مسالك الحياة، وليس دروب الموت، عبر الحروب والمجاعات، لا سيما وأن الأرض تحترق اليوم، ولا يحتمل المشهد الانتظار حتى قمة شرم الشيخ، أو "كوب 27" القادمة خلال بضعة أسابيع، أو الصبر لمدة عام، إلى أن تُعقد قمة المناخ العالمي، كوب 28، في دولة الإمارات العربية المتحدة.
تبدو المعادلة الأوروبية، وقريبا الأمريكية، كأنها مواجهة بين كتلتين، واحدة تؤمن بمبدأ الأخوة الإنسانية، حيث الجميع يجذف معًا من أجل الوصول إلى بر الإمان، وأخرى تعتقد في حتمية النجاة بشكل منفرد، حتى ولو كان من خلال القفز من قارب الإنسانية، والذي تكاد ثقوبه تغرقه دون أن يدري ملّاحوه مع ركابه الخطرَ المحدق بهم جميعا ودفعة واحدة من غير آية انتقائية.
"اقتصاد فرنسيس" مغاير شكلا وموضوعا لطروحات جورجيا ميلوني الاقتصادية، الساعية لتعظيم ربح إيطاليا منفردة، مع أن أحدا لا ينكر عليها ولا على شعبها حقها في العيش الكريم، بل والرفاه الاقتصادي، إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.
ما يسعى إليه فرنسيس في اقتصاده المسمَّى على اسم المتصوف الإيطالي الأشهر فرنسيس الأسيزي، من أعمال إيطاليا والمولود في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي في مدينة أسيزي الإيطالية، هو حالة استدامة متعددة الأبعاد، بيئيا واجتماعيا، روحيا واقتصاديا، إنها سعي نحو سردية الروح الإنسانية الواحدة، سردية تضع الفقراء والمهملين، المهمشين والمتروكين، في قلب اهتمامات العالم المعاصر.
تُرى لمن النُّصرة؟ للأخوة الإنسانية أم للأيديولوجيا العنصرية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة