انطلقت صباح الخميس الماضي المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جمهورية جديد في لبنان خلفا للرئيس ميشال عون، الذي تنتهي ولايته في 31 أكتوبر الجاري.
وانطلق سباق الألف ميل، الذي بدأ بدعوة رئيس مجلس النواب، لجلسة انتخاب يُشترط قانونًا لصحة انعقادها حضور ثلثي المجلس.
دعوة للانتخاب دون اتفاق مسبق على اسم الرئيس، ما دفع ببعض النواب إلى طلب مقاطعة الجلسة الأولى وإفقادها نصابها القانوني، لإجراء مزيد من الاستشارات فيما بينهم، وطرح أسماء جدية لهذا الاستحقاق، فالكتل النيابية متناحرة، لا انسجام ولا اتفاق أو تنسيق حتى اللحظة على الشخصية التي ستتولى ترميم الدولة المنهارة اقتصاديا وماليا، فالمؤسسة الدستورية الأولى تواجه خطر الفراغ من جهة وحتمية تسليم الصلاحيات للرئاسة الثانية المستقيلة حكمًا بعد انتخابات المجلس، بمعنى أن الشعب اللبناني سيكون بين يدي حكومة مستقيلة ناقصة الأهلية، مجردة الصلاحيات، تستعد لإدارة شؤون الدولة، والبلاط سينتظر كما البلاد الكلمة السحرية التي تعبّد أمر الدخول إليه.
فمَن الشخصية المارونية التي ستحظى بالدعم الرباعي ليُعبَّد أمامها طريق "بعبدا" الرئاسي؟
ويُقصد بالدعم الرباعي ذلك المتمثل أولا في "بركة" البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، الذي لم يبادر إلى تسمية أي شخصية، وإنما اكتفى بإطلاق جملة مواصفات، أهمها أن يكون رئيسًا قويًا يُعيد لبنان إلى الحضن العربي، ويسعى إلى تبني الحياد حفاظًا وحمايةً لمصالح لبنان وشعبه، والدعم الثاني الواجب توافره في إطلاق عجَلة الانتخابات الرئاسية هو الدعم الخليجي، أمّا الدعمان الأخيران فيتمثلان في مساعدة الغرب، فرنسا وأمريكا، حيث تُظهر الأولى اهتمامًا بالغًا بالشأن اللبناني، خصوصًا بعد انفجار مرفأ بيروت، وإطلاقها مجموعة مبادرات لم تلقَ نجاحًا بسبب "فساد ساسة لبنان وتمسكهم بالمصالح الشخصية"، ما قوّض مسعاها.. أما أمريكا فما عاد خفيًّا على أحد عدم اكتراثها بالوضع اللبناني لعدم تقويض الدولة "حزب الله" ونشاطاته الإرهابية بالنسبة لها في سوريا واليمن وسطوته على مفاصل الدولة اللبنانية.. أي إنّ اللاعب الأبرز قد تُرك لساسة لبنان في تحديد مصيرهم وإنجاز استحقاقاتهم.
مما لا شك فيه أن الدولة اللبنانية اعتادت التسويات، ولم تُتم استحقاقا في موعده، فمنذ اتفاق الطائف عام 1989 إلى يومنا هذا تعاني الرئاسة الأولى من عدم إتمام استحقاقها في موعده، فإما فراغ أو تمديد، أو القيام بتسوية تمهد وتسهل وصول الرئيس إلى القصر الجمهوري، وهذا ما حصل في عهد الرئيس ميشال عون، عندما أصرّ "حزب الله" الإرهابي على إيصال حليفه وتعطيل لبنان سنتين ونصف السنة، لتنتهي الفترة بتسوية شاملة أُقْعِد بموجبها "عون" في "بعبدا"، وجلس رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، في القصر الحكومي، وبوركت هذه المبادرة من مجمل الأحزاب اللبنانية آنذاك.. فكيف سيكون المشهد اليوم بعد شبه سقوط المظلة المسيحية عن "حزب الله" الإرهابي، الذي قبل بـ"عون" رئيسًا كي يتمكن من فرض سيطرته على سياسة البلاد الداخلية والخارجية وإخضاعها لنفوذ خارجي؟ وأي تسوية ستُطلق في ظل برود العلاقات مع دول الخليج العربي وعدم رضاها عن أداء السلطات اللبنانية على المستوى الخارجي بسبب سطوة "حزب الله" على قرار الدولة بقوة السلاح؟
كثير من المعطيات تشير إلى تعمّد "حزب الله" الضغط على حلفائه والمكونات السياسية الأخرى لتعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة حكمًا بموجب القانون، والاكتفاء بتعديلات تطال أسماء بعض الوزراء لاستحالة تشكيل حكومة في الوقت القريب.
وتراقب مختلف الكتل السياسية اللبنانية هذا الاستحقاق، والذي يعتبر الأهم للطائفة المارونية، والذي شهد عبر التاريخ صراعات واقتتالات بين أبناء الطائفة الواحدة، وهذا ما شهدناه أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، فالزعماء التقليديون يعانون من قلة حظوظ في الوصول إلى هذا المنصب لعدم وجود دعم أو اتفاق يكرّس أحدهم رئيسًا، ويعود السبب في ذلك لعدم امتلاك المجلس الحالي لأكثرية، بل هو بمثابة برلمان الأقليات، وكلّ أقلية تغنّي على ليلاها، باستثناء الثنائي الشيعي، والذي لا يشكل مجتمعًا لأكثرية مطلوبة لانتخاب الرئيس "النصف+1"، ولا أكثرية الثلثين، كونه لن يستطيع جذب التيار الوطني الحر، الذي يعتبر نفسه أولى من غيره في تولي الرئاسة، وهو ما لا يقبله إطلاقا حليف الحزب، المتمثل في حركة أمل.. كما لم تستطع القوة التغييرية الجديدة أن توحد جهودها مع كتل تتقارب معها في وجهات النظر حول اسم رئيس يحمل المواصفات التي يريدونها.
في الخلاصة، وعلى الأغلب، فإن الأزمة لن تكون قصيرة الأمد إذا ما تُرك القرار لأحزاب أفرغت ونهبت وجرّدت الدولة من مقوماتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة