بَيْن تبنّي دول حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة موقف أوكرانيا وإغداق الدعم عليها عسكريا وسياسيا واقتصاديا.. وبين ركائز الاستراتيجية الروسية ودعائمها العسكرية والسياسية التي تتمسك بها موسكو..
وتبررها بالدفاع عن أمنها القومي ومتطلباته التاريخية وهي الحد من تهديدات الناتو لوجودها ونفوذها ودورها كقوة عظمى.. بين حدّي هذه المعادلة، تفجرّت قضايا واستُحْدِثت أخرى وتشعبت الأهداف على حساب مسالك التفاهمات والمقاربات، وحلّت بديلا عنها نزعات التباعد والافتراق.. أيُّ سبيل سيسلكه النزاع بين الطرفين بعد مرحلة الاستفتاء والانضمام لروسيا؟
إذا كانت واشنطن، ومعها دول الناتو، قد أعلنت أنها لن تعترف بالاستفتاء ولا بنتائجه ولا بعملية انضمام الأقاليم الأربعة إلى روسيا، فكيف سيكون شكل وطبيعة الرد الأوكراني؟ هل سيقتصر على البعد السياسي والدبلوماسي، أم يتخذ شكلا من أشكال الرد العسكري ما دامت أجزاء من تلك المناطق لم تخضع بكاملها بعد للجيش الروسي، ولا يزال قسم منها بيد الجيش الأوكراني ومواليه؟
السؤال الأكثر إثارة يتمحور حول ماهية العلاقة بين المكونات الاجتماعية، العرقية والمذهبية، التي تشكل مجتمعات تلك المناطق، واحتمالات تفجر نزاعات بينها داخل المنطقة الواحدة.
يشير الإصرار الروسي على المضي قدما في "العملية الخاصة"، كما يسميها، "حتى تحقيق أهدافها"، إلى احتمالات تصعيدية في الميدان ضمن جغرافيا محددة تشمل المناطق التي انضمت إليها وتعتبرها "موالية"، في حين تعكس المواقف الأوكرانية، التي تتبناها دول الناتو، والتي ذهبت إلى حدود الإعلان عن أنها ستعمل على "تحرير كامل التراب الأوكراني" ومطالبتها بصنوف متنوعة من الأسلحة الأطلسية ردا على نتائج الاستفتاء، ملامح مرحلة جديدة في سياق النزاع عنوانها الأبرز "لا صوت يعلو على صوت الرصاص".. مع ما قد يحمله ذلك من مفاجآت ومخاطر على الطرفين وعلى مجمل المشهد الدولي.
تقدمت لغة التهديد المتبادل على حساب مفردات التهدئة. تراجعت خيارات الدبلوماسية وحظوظها حتى الآن. المعطيات التي بلورتها عملية الاستفتاء والانضمام إلى روسيا تُفصح عن جملة احتمالات، أحدها استغلال الوضع غير المستقر في تلك المناطق من جانب كييف وداعميها وتحويلها إلى بؤر استنزاف لروسيا، طالما أنها لم تُحكم سيطرتها الميدانية التامة والنهائية عليها، وهو احتمال قد يترتب عليه ارتفاع منسوب العنف متعدد الأساليب، الذي ستتبعه أطراف النزاع، سعيا لتحقيق أهدافها، ومن شأن هذا الاحتمال -حال حدوثه- أن يفتح مسارات إضافية في سياق النزاع القائم.
الاحتمال الآخر هو أن تلجأ موسكو إلى "حسم عسكري" عبر مساندة مباشرة للقوى الموالية لها في تلك المناطق وتبسط سيطرتها الكاملة عليها بعد عملية الانضمام إليها، وفي هذه الحالة يمكن التكهن باثنين من السيناريوهات:
فإما أن ترمي موسكو بثقلها العسكري للدفاع عما ستعتبره أراضي روسية مهما اقتضى الأمر، وهذه الحالة تنطوي على مخاطرة حدوث مواجهة مباشرة بين الروس وبين دول الناتو، وإما أن تشكل السيطرة الروسية مدخلا لحوار مع الطرف الآخر، كييف وداعميها، يضع حدا للنزاع، على غرار ما حدث وحصل في جزيرة القرم عام 2014.
لكن عقبات واقعية تحول دون تحقق السيناريو الأخير، تتقدمها الأهداف الاستراتيجية لواشنطن ودول الناتو من هذا النزاع، إضافة إلى الظروف الدولية الراهنة المغايرة لما كانت عليه قبل ثماني سنوات.. فهل تمتلك موسكو حاليا من الأوراق الذاتية والدولية ما يمنحها القدرة على فرض الحوار كخيار وحيد حال سيطرتها التامة على تلك المناطق بعد انضمامها إليها؟ وما حظوظ نجاحها في فرض الأمر الواقع هذه المرة؟ وهل يصح التكهن بأن يشكل الاستفتاء وانضمام المناطق الأربع مدخلا لنهاية النزاع، أم العكس؟
إذا جاز الحديث عن "حرب الطاقة والغذاء" كعامل ضغط، فإن لدى روسيا ما تستقوي به ردا على العقوبات الغربية غير المسبوقة، التي فرضت عليها ولا تزال تتوالى، وكذلك دفاعا عن مكانتها حاضرا ومستقبلا، وقد عاينت أوروبا أهمية الطاقة الروسية وحاجتها الماسة إليها، وبدأت تلوح في الأفق إرهاصات أولية داخل البيت الأوروبي متذمرة من منعكسات النزاع عليها اقتصاديا وأمنيا، ما يعزز فرضية التأثر الأوروبي بفعل المصالح والاحتياجات لترجيح خيار الحوار عندما يحين أوانه، لكن الماثل حتى الساعة من وقائع ومعطيات ومواقف، لا يوحي إلا بأولوية استمرار المنازلة.
نتائج الاستفتاء في الأقاليم الأربعة شرق أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا، ترسم عددا من السيناريوهات المستقبلية، المتناقضة والمتعارضة، لكنها تلتقي جميعها عند محور واحد، وهو المستقبل المجهول للنزاع الروسي-الأوكراني، الذي شكلت ظروفَه الماثلة حاليا، ورسخت أعمدتَه القائمة، معطياتُ الواقع الميداني على مدى الشهور الثمانية من عمر النزاع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة