مما لا شك فيه أن وضع أهداف للموظفين أمر في غاية الأهمية لتحفيزهم وزيادة إنتاجيتهم.
لذلك ظهر في السنوات الأخيرة مصطلح "التارجت"، ويُقصد به تحقيق هدف في مدة زمنية معينة، سواء كان شهريا أو سنويا، ويحدد وفقا لقدرات فريق العمل وطبيعة أعمال الشركة وحجم الأرباح المطلوبة، وهو هدف يتغير دائما بتغير الإنتاج وطبيعة السوق.
ويعد "التارجت" مفيدا جدا في المبيعات والتسويق لأنه يخلق تنافسية بين مسؤولي البيع لتحقيقه والحصول على العمولة من وراء ذلك، ويسهل استخدام مبدأ "التارجت" في مجالات بيع السلع الاستهلاكية، لأنه يمكن فيها قياسه بالأرقام والإحصائيات.. فهذه المجالات الحكم الأول والأخير بها للأرقام والمبيعات.
ولكن طرق "التارجت" مجالات ليس الفيصل النهائي فيها للأرقام، ما أدى إلى انشغال هذه المجالات بالكم على حساب الكيف، وتسبب ذلك في الهبوط بالمستوى الفني بُغية تحقيق الأرقام والمشاهدات.
فلنأخذ مجالا جديدا مثل "المؤثرين" على "السوشيال ميديا" بعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تدر دخلا على حسب أعداد المشاهدات، فأصبحنا نرى شبابا يقومون بأفعال جنونية وبلا قيمة، فقط لكي ينتشروا على مواقع التواصل الاجتماعي ويصبحوا "ترند"، لتحقيق أكبر عدد من المشاهدات.
ووصل الأمر ببعضهم لتقديم تنازلات أخلاقية لتحقيق "التارجت" المطلوب للحصول على أكبر قدر من الأموال.
لا يختلف الحال كثيرا عندما نتحدث عن عالم الصحافة اليوم. فبعد أن عرف "التارجت" مساره للمؤسسات الصحفية، صار الكثير منها يلهث وراء "الترندات" وتحقيق المشاهدات والزيارات على حساب المحتوى وقيمته، فنرى بعض الوسائل الإعلامية تهتم بأبطال من ورق تستضيفهم في بث مباشر، فقط لأنهم كانوا "ترند"، ولم يسألوا السؤال البَدَهي: "هل هؤلاء يقدمون أي نفع للمجتمع؟".
فما فائدة بث مباشر لزوجين تعاركا قبل فرحهما أو لمطرب مهرجانات قدّم أغنية لا تمت للفن بصلة سوى أن هذه النماذج كانت "ترند"؟
للأسف تم فرض "التارجت" على العاملين بمهنة الصحافة لتحقيق عدد من الزيارات والمشاهدات لمواقعهم، فأصبحوا يسعون وراء "الرائج" وليس "القيمة"، ما أدى إلى هبوط شديد في الذوق والثقافة العامة والمحتوى الذي يفيد الجمهور ولا يكتفي بتسليته.
بالرجوع إلى فترة الإغلاق إبان جائحة كورونا، كيف لصحفي يعمل بقسم السياسة مثلا أن يجد أحداثا يكتب عنها أو يحللها؟
هنا وجب أن نقول للمسؤولين عن المؤسسات الصحفية، وهم أعلم منا بذلك، إن هناك فرقا ضخما بين "تارجت" مبيعات السلع الاستهلاكية و"تارجت" الصحافة كرسالة قبل أن تكون مهنة.. فإنْ كان عمود الخيمة في مبيعات الأجهزة والسلع هو الأرقام، فعمود الصحافة هو المحتوى الجيد الخالد بعيدا عن الاستهلاك اليومي.
يمكننا أن نسائل الصحفي عن "التارجت" مثلا بمعنى: هل حققتَ سبْقا صحفيا هذا الشهر؟ ما سرعتُك في تغطية الحدث الفلاني وكيف كانت جودة التغطية؟
لكن دعونا هنا لا ننفي أهمية حصد الزيارات والمشاهدات لجميع المنصات.. فهو مجال منافسة بالتأكيد.. وبقاء الموقع وانتشاره مرهون بتلك الأمور، خاصة مع التنافس الشديد بين المنصات على وقت الجمهور.. ولكن الخلاف هنا على الكيفية التي نجذب بها الجمهور، فنحن لا يهمنا فقط وقته، بل يهمنا ولاؤه ووعيه، وهذا لن يحدث إلا بمحتوى لا ينظر إلى أرقام الزيارات و"الترند" على أنها كل شيء في الصحافة.. هذا نوع واحد فقط من الصحافة أسموه "الصحافة الصفراء"، التي تجري وراء الأخبار الساخنة اللاهية واللاهثة وراء شائعات، وكل ما يُجري لُعاب المراهقين، أما الصحافة المسؤولة، فهي تلك التي تستقطب العقول والضمائر نحو قضايا الإنسان وليس نحو ملذاته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة