ما حققه حزب ترامب في الانتخابات الأخيرة يعد بهذا المعيار نصرا لا خسارة.
قد يبدو عنوان هذا المقال غريبا أو تغريدا خارج السرب أو سباحة عكس تيار التحليلات التي ذهبت إلى بداية النهاية لحقبة ترامب بالنظر إلى نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، التي خسر فيها الجمهوريون أغلبيتهم داخل مجلس النواب لصالح الديمقراطيين، وهي الأغلبية التي مكنت ترامب من أجندته التشريعية كاملة دون أي عراقيل، ومن ثم ذهبت معظم التحليلات إلى أن ترامب تلقى ضربة قاسية بعد نتائج هذه الانتخابات، وأنه أصبح "بطة عرجاء" لن تقوى على الوقوف في وجه الإعصار الديمقراطي في الكونجرس، ولن تستطيع أن تستكمل نهجها الذي بدأته منذ نحو عامين، سواء فيما يتعلق بقضايا السياسة الداخلية أو الخارجية، وأن ترامب سيقضي ما تبقى من فترته الرئاسية تحت قيد تهديدات بتحريك قضية عزله داخل مجلس النواب، بعد أن امتلك زمام ناصيته الديمقراطيون.
ما حققه حزب ترامب في الانتخابات الأخيرة يعد بهذا المعيار نصرا لا خسارة، فهو وإن خسر أغلبيته داخل مجلس النواب، فإنها لم تكن خسارة فادحة، ولا خسارة بحجم التوقعات التي كانت تريدها انتخابات لتصحيح المسار ونقطة انطلاق لاستعادة المكتب البيضاوي في انتخابات 2020
إذن.. مع كل هذه المعطيات، قد يبدو غريبا قولنا إن ترامب هو من فاز بهذه الانتخابات رغم خسارته لمجلس النواب، فما الدافع لمثل هذا القول؟
أستند في تقديري هذا لنقطتين مرتبطتين، جرى تجاهلهما عمدا أو نسيانا أو تناسيا، الأولى تتعلق بحقيقة تاريخية، حيث جرت العادة في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي أن يخسر حزب الرئيس عددا معتبرا من مقاعده داخل مجلسي الكونجرس، النواب والشيوخ، وهذه أصبحت عادة ملازمة للشعب الأمريكي أثناء الانتخابات كنوع من التغيير، مهما كانت شعبية الرئيس، فعلى سبيل المثال، لا خلاف على أن أكثر رئيسين شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الأخيرين هما بيل كلينتون وباراك أوباما، وبنطرة سريعة على نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس خلال حقبتيهما سنجد أنه في عام 1994، وخلال حكم بيل كلينتون، خسر الديمقراطيون في انتخابات التجديد النصفي 53 مقعدا في مجلس النواب، و9 مقاعد في مجلس الشيوخ، وفي عام 2010 أثناء حكم الرئيس "التاريخي" باراك أوباما خسر الديمقراطيون 63 مقعدا في مجلس النواب، و6 مقاعد في مجلس الشيوخ، في المقابل خسر الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة 2018، وفي ظل حكم "ترامب" 27 مقعدا فقط في مجلس النواب، وعزز أغلبيته في مجلس الشيوخ بعد أن فاز بثلاث مقاعد إضافية.
أي أن، وبنظرة مقارنة، ما خسره الديمقراطيون في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في ظل حكم أكثر رؤسائهم شعبية، يعد أكثر من ضعف ما خسره الجمهوريون في ظل حكم أقل رؤسائهم شعبية، ومن ثم فقد خاب سعي كل من منَّى النفس بأن تصدر الانتخابات الأخيرة حكما على ما مضى من رئاسة ترامب أو أن تكون استفتاء على سياسته أو نهجه أو خياراته أو حتى مستقبله، فبالنظر إلى رئيس كان كثير من الأمريكيين يرون وصوله لسدة الحكم في البيت الأبيض تهديدا للقيم الأمريكية، ويرون استمراره تحديا خطيرا للنموذج الأمريكي الديمقراطي، وبالنظر إلى عداء معظم وسائل الإعلام الأمريكية له وخوضه حربا مفتوحة ضدها، وكذلك تحديه من قبل الطبقة السياسية الأمريكية التقليدية ومؤسسات الدولة العميقة، وكان كل هؤلاء ينتظرون انتخابات الكونجرس، كونها فرصة لا تعوض لتصحيح هذا "الخطأ" الذي حدث قبل عامين، ولكن خاب ظن هذا الفريق لأن ما حدث في يوم الثلاثاء 6 نوفمبر 2018 لم يكن تصحيحا ولا تصويبا لما حدث يوم الثلاثاء 8 نوفمبر 2016، بل كان تأكيدا له وتأكيدا لحالة الانقسام غير المسبوقة التي يعيشها المجتمع الأمريكي منذ ذلك اليوم، وبالتالي فإنه وفقا لهذه الحسابات، فإن ما حققه حزب ترامب في الانتخابات الأخيرة يعد بهذا المعيار نصرا لا خسارة، فهو وإن خسر أغلبيته داخل مجلس النواب إلا أنها لم تكن خسارة فادحة، ولا خسارة بحجم التوقعات التي كانت تريدها انتخابات لتصحيح المسار ونقطة انطلاق لاستعادة المكتب البيضاوي في انتخابات 2020، كما أنها ربما كانت خسارة متوقعة من قبل الجمهوريين أنفسهم، لذا كان ترامب حريصا على تمرير كل القضايا والملفات الشائكة قبل موعد هذه الانتخابات بما يحول دون عرقلتها، فانسحب من صفقة الاتفاق النووي مع إيران، ومن قبلها نفذ وعده بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وأيضا بنقل سفارة بلاده في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وغيرها من القضايا الشائكة التي حرص ترامب على تمريرها أو عدم عرقلتها قبل الخسارة المتوقعة لأغلبيته داخل مجلس النواب.
أيضا عوض الجمهوريون خسارتهم في مجلس النواب بتعزيز أغلبيتهم داخل مجلس الشيوخ، وما يعنيه ذلك من اطمئنان ترامب على مستقبله وتيقنه من تجاوز كل سيناريوهات عزله والتي كانت تستوجب فوز الديمقراطيين بأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ للمضي قدما في إجراءات العزل، وبالتالي فرصة أن نرى ترامب مرة أخرى مرشحا في انتخابات 2020 أصبحت مؤكدة، بل أصبحت حظوظه في الفوز بولاية ثانية كبيرة بعد أن صار الاصطفاف الجمهوري خلفه جليا، هذا بالإضافة إلى أن هذه الأغلبية ستمكنه من تعيين كبار الموظفين بما فيهم قضاة المحكمة العليا والقضاة الفيدراليون، والأهم من ذلك فإن هذه الأغلبية ستجير الديمقراطيين على التعاون مع الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، لكي تجد تعاونا مماثلا في مجلس الشيوخ ولا يتم تعطيل ما رفعه مجلس النواب في مجلس الشيوخ .
لكل هذه الأسباب أعتقد أن ترامب لم يخسر هذه الانتخابات بل فاز بها وأخذ ما يريده منها، بالنظر إلى خسائر أعمق وأكبر كانت محل تمني الكثيرين، وبالنظر إلى إفلاته من "موجة زرقاء" نسبة إلى لون الحزب الديمقراطي، كانت يمكن أن تكتسح المجلسين، ولعل ترامب نفسه كان مستشعرا هذا الانتصار حين وصف نتائج الانتخابات بأنها "نجاح باهر" وأنها "تحدث للتاريخ".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة