إغلاق «الحرة» وتجميد المساعدات.. هل يقتل ترامب القوة الناعمة لأمريكا؟ (خاص)

رغم أن تجارب الولايات المتحدة في استخدامها لم تحقق النتائج المرجوة، مقارنة بنجاحاتها في توظيف القوة الناعمة. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعمل على تقليص النفوذ الناعم للولايات المتحدة.
تعتمد القوة الصلبة على الموارد المادية لإجبار الآخرين على الامتثال أو الطاعة، ولا يشترط أن تكون هذه القوة عسكرية، فالتهديدات المدعومة بالقوة الاقتصادية قد تكون كافية لتغيير سلوك الآخرين، ويمكن اعتبار الدفع مقابل السلع أو الخدمات أحد أشكال هذه القوة.
في المقابل، تقوم القوة الناعمة على السياسات، والثقافة، والقيم السياسية لإقناع الآخرين بالتعاون من خلال الجاذبية والإقناع، مما يستلزم استثمارات في مجالات مثل الصحة، والبحث العلمي، والثقافة، والإعلام، حيث تعود هذه الاستثمارات بفوائد تفوق تكاليفها.
لكن ترامب يبدو غير مقتنع بهذا النهج، فقد شملت قراراته الأخيرة إغلاق قناة "الحرة"، وهي منصة إخبارية ناطقة بالعربية تمولها الحكومة الأمريكية، إضافة إلى الانسحاب من منظمة الصحة العالمية وإعادة هيكلة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي كانت من أبرز أدوات القوة الناعمة للولايات المتحدة
"شارع سمسم ".. النصيب الأكبر من الانتقادات
منذ تأسيسها عام 1961، نفذت الوكالة العديد من المشاريع التنموية والإنسانية حول العالم، مثل تحسين الصحة العالمية، محو الأمية، تعزيز التعليم، دعم التعافي من النزاعات، مكافحة الفقر والمجاعات، وتعزيز الأمن الغذائي.
إلا أن هذه البرامج كانت جزءًا من استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى تعزيز السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومصالحها الدولية، غير أن ترامب رأى أن هذه الأهداف لم تتحقق بالشكل المطلوب، ما دفعه إلى إخضاع الوكالة للإشراف المباشر من وزارة الخارجية وتجميد بعض مساعداتها، مع اتهامها بإهدار الأموال على مشاريع لا تخدم المصالح الأمريكية.
من بين المشاريع التي واجهت انتقادات من ترامب، مشروع "شارع سمسم" باللغة العربية، الذي انطلق عام 2021 لدعم الأطفال في المناطق المتأثرة بالنزاعات، خصوصًا في العراق. وقدمت الوكالة منحة قدرها 20 مليون دولار لهذا المشروع، إلا أن ترامب وصفه بأنه "مثال على سوء استخدام التمويل الحكومي"، وهو موقف تبنته المتحدثة باسم البيت الأبيض في إحاطة إعلامية، مؤكدة أن البرنامج "لا يقدم فائدة مباشرة للمواطن الأمريكي".
خسائر فادحة للصحة العالمية
تجاهلت الإدارة الأمريكية خلال انتقاداتها للوكالة بعض المشاريع الأخرى التي أثرت بشكل ملموس، مثل مشروع "الأيادي الخضراء" في سوريا، الذي يوفّر المياه النظيفة والصرف الصحي في مخيمات النازحين. كما لم تشر إلى تداعيات وقف التمويل على الصحة العالمية، إذ كانت الولايات المتحدة الممول الأكبر في هذا المجال، بإنفاق بلغ 12.4 مليار دولار في السنة المالية 2024، ما أدى إلى حرمان ملايين البشر من الرعاية الصحية الأساسية وزيادة خطر تفشي أمراض مثل الإيدز، جدري القردة، وماربورغ، وفقًا لتقرير صادر عن مجلس الصحة العالمي.
ومن أبرز البرامج المتضررة، برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز، الذي كان يتلقى تمويلاً كبيرًا ضمن خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز منذ عام 2003، حيث استثمرت الولايات المتحدة أكثر من 110 مليارات دولار في مكافحة المرض. لكن في 27 فبراير/ شباط، أنهت الولايات المتحدة رسميًا تعاقدها مع البرنامج، ما اعتبره مسؤولوه تهديدًا لاستمرارية العلاج المنقذ للحياة.
إضافة إلى ذلك، تأثر قطاع التعليم أيضًا، حيث توقفت المنح الدراسية التي كانت تقدمها الوكالة لآلاف الطلاب حول العالم، مما يهدد مستقبلهم الأكاديمي. وأظهر تحليل لمركز التنمية العالمية أن 26 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل، يبلغ مجموع سكانها 1.4 مليار نسمة، معرضة بشدة لتداعيات هذه التخفيضات، في ظل عدم قدرتها على تعويض الفجوة الناتجة عن وقف التمويل
إهمال دروس الماضي
يرى البروفيسور والتر كليمينز، أستاذ العلوم السياسية الفخري بجامعة بوسطن وزميل مركز ديفيس للدراسات الروسية والأوراسية بجامعة هارفارد، أن تراجع القوة الناعمة الأمريكية في تلك الدول يعد تجاهلاً غير مبرر لدروس الماضي.
وفي مقال نشره في جريدة "ذا هيل"، أشار كليمينز إلى أن إدارة ترامب تؤمن بتأثير القوة الصلبة، رغم أن الولايات المتحدة لديها تجارب غير ناجحة في استخدامها، مثل فيتنام والشرق الأوسط، في حين حققت نجاحات بارزة بالقوة الناعمة، من بينها خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وأوضح أن هذه الخطة، رغم أن تكلفتها لم تتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي آنذاك، إلا أنها ساهمت في تأسيس شراكات تجارية وحلفاء استراتيجيين، وحققت أوروبا من خلالها أسس النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي. كما أشاد ببرنامج فولبرايت الذي ساهم في تعزيز التبادل الثقافي بين الشباب الأوروبي والأمريكي.
وأشار كليمينز إلى أن الاستثمار في القوة الناعمة كان ولا يزال أقل تكلفة من الحروب، موضحًا أن "مساعدة أوروبا والبلدان النامية كانت متواضعة مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكي، الذي كان ينتج نصف السلع والخدمات العالمية آنذاك، وحتى اليوم، تساهم الولايات المتحدة بـ 26% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي".
ورغم هذه النجاحات، يرى كليمينز أن ترامب يقوّض القوة الناعمة الأمريكية، قائلاً إن "سياساته تضعف قدرة أمريكا على إلهام الآخرين وتحفيزهم للعمل نحو أهداف مشتركة، كما أن نهجه القائم على التهديدات والمطالب لا يأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب والحكومات المستقلة لن تتخلى عن مصالحها استجابة للضغوط".
وأعرب عن قلقه من أن هذه السياسة "قد تؤدي إلى تآكل النفوذ الأمريكي وزيادة عزلة البلاد على الساحة الدولية
سلاح الجذب بديلا للإكراه
هذه التحركات العنيفة من إدارة ترامب والتي يراها كليمينز مقوضة لقوة أمريكا الناعمة، سبقها تحركات أقل عنفا في فترته الرئاسية السابقة، وتسببت حينها في تراجع أمريكا من المركز الأول في عام 2016 إلى المركز الخامس في عام 2019، وفق مؤشر "القوة الناعمة 30" البريطاني السنوي.
وانعكست نتيجة هذا المؤشر بشكل واضح في استطلاع أجرته مؤسسة "بيو" يظهر أن 29% فقط من المشاركين في 33 دولة يثقون في ترامب، وهو تصنيف كان معادلا حينها لتصنيف الرئيس الصيني شي جين بينغ.
كما أشار استطلاع آخر أجرته مؤسسة جالوب في 134 دولة، إلى أن 30% فقط من الناس ينظرون إلى الولايات المتحدة بإيجابية تحت قيادة ترامب، وهو انخفاض بحوالي 20 نقطة مقارنة بفترة رئاسة باراك أوباما.
ووصف د. جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأمريكية حينها هذه النتائج، بأنها تشير إلى أن رئاسة ترامب تساهم في تقويض القوة الناعمة لأمريكا، وهي القدرة على الجذب بدلا من الإكراه.
وقال ناي في مقال نشره حينها بصحيفة نيويورك تايمز: "قوتنا لا تأتي فقط من قدرتنا العسكرية والاقتصادية، لقد فهم معظم الرؤساء السابقين أن القوة تأتي أيضا من قدرتنا على جذب الآخرين، فإذا تمكنا من جعلك ترغب فيما نريده نحن، فلن نضطر إلى إجبار الآخرين على فعل ما نريد".
ووصف أسلوب الرئيس الأمريكي بالأب الذي يعتمد العقاب بدلا من الإقناع وسيلة لتربية الأبناء، ويضيف: "كما أن الآباء الحكماء يعرفون أن قوتهم على أبنائهم ستكون أكبر وستدوم أطول إذا ما جسدوا القيم الأخلاقية السليمة بدلا من الاعتماد فقط على العقاب، فإن أمريكا تكسب قوتها الناعمة من قيمها،عندما نعيش وفقا لها، ومن سياساتها، عندما تُعتبر شرعية".
هذا ما قاله ناي قبل خمس سنوات، لكن صحيفة فاينانشال تايمز ، وبعد أن استندت إلى نظريته القائمة على "الجذب بدلا من الإكراه"، باتت على يقين وهي ترصد التحركات الأخيرة للإدارة الأمريكية، بأن قوة أمريكا الناعمة في طريقها للفناء، وهو ما عبرت عنه في المقال الذي نشر تحت عنوان " ترامب ونهاية القوة الناعمة الأمريكية".
aXA6IDMuMTQ1LjEyNS4xMyA=
جزيرة ام اند امز