تقويض دون انسحاب.. ترامب يزعزع «الناتو» بأساليب جديدة

لطالما شكّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) الركيزة الأساسية للأمن الأوروبي، لكن رياح التغيير تهب من واشنطن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وبينما يقيّد القانون الأمريكي، قدرة أي رئيس أمريكي على الانسحاب الرسمي من الحلف، فإن لدى ترامب أدوات أكثر دهاءً قد تتيح له تقويض الناتو دون الحاجة إلى إعلان الطلاق الرسمي.
فوفقا لتقرير مجلة نيوزويك الأمريكية، فإن سحب الولايات المتحدة رسميًا من حلف الناتو، يوجب على إدارة ترامب تقديم إشعار مدته عام، وفقًا للمادة 13 من ميثاق الحلف.
وفي إشارة إلى الثقة السابقة بالتزام الولايات المتحدة الثابت، يجب تسليم الإشعار إلى الحكومة الأمريكية، ثم تُبلغ واشنطن الدول الأخرى بهذه الخطوة.
وقال إدوارد هانتر كريستي، المسؤول السابق في حلف الناتو، إن ترامب سيحتاج أيضًا إلى التشاور مع لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وكذلك لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، ثم إخطارهما.
وكان الكونغرس أقر تشريعًا في أواخر عام 2023 يمنع أي رئيس أمريكي من سحب الولايات المتحدة من حلف الناتو دون موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ أو إجراء منفصل يقره الكونغرس.
تقويض الحلف
لكنّ الخبراء يشيرون إلى أن ترامب قادر على تقويض الحلف دون مغادرته رسميًا، عبر إضعاف الثقة التي تُعتبر حجر أساسه، فمجرد التشكيك في التزام واشنطن بالمادة 5، التي تنص على الدفاع المشترك، قد يُفقد «الناتو» مصداقيته ككيان ردعي.
وبحسب المجلة الأمريكية، فإن ترامب لا يحتاج إلى اتخاذ خطوات دراماتيكية لسحب الولايات المتحدة من الناتو؛ فبإمكانه تفعيل سيناريوهات «الخيانة الناعمة». فعلى سبيل المثال، يمكنه التهديد علنًا بعدم الدفاع عن الدول الأعضاء التي لا تلتزم بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يتجاوز حتى الهدف الحالي البالغ 2%، الذي بدأت معظم الدول الأوروبية تحققه مؤخرًا.
وأشارت إلى أن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، الذي يضم عشرات الآلاف من الجنود، قد يُرسل إشارة بتراجع واشنطن عن دورها كدرع أوروبية أمام التهديدات الروسية.
وتدرس الإدارة حاليًا التخلي عن منصب «القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا» -وهو دور احتكرته الولايات المتحدة منذ 75 عامًا- مما قد يُفسر على أنه بداية انفصال استراتيجي.
تداعيات عسكرية
تأثير التحركات الأمريكية المحتملة يمتد إلى البنى العسكرية المشتركة، فانسحاب القوات البرية الأمريكية من أوروبا، مع الإبقاء على الترسانة النووية التكتيكية الموزعة في دول مثل ألمانيا وبلجيكا، قد يخلق توازنًا هشًا: فمن ناحية، يدفع الأوروبيين إلى تحمل مسؤولية دفاعهم، ومن ناحية أخرى، يحافظ على وهم الردع النووي.
لكن غياب التنسيق في المناورات العسكرية، كما حدث في أكبر تدريبات الناتو هذا العام دون مشاركة أمريكية، يُضعف الجاهزية العملياتية.
وعلى الصعيد الاستخباراتي، فإن تعليق واشنطن التعاون في مجموعات العمل المُخصصة لمواجهة التهديدات الروسية -مثل التخريب أو الهجمات الإلكترونية- يُعطل آليات الإنذار المبكر، ويُضعف القدرة على التصدي لاستراتيجيات موسكو في "المنطقة الرمادية".
تقدم سياسة ترامب تجاه أوكرانيا نموذجًا مقلقًا للحلفاء الأوروبيين. فبقطع المساعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية عن كييف، تُظهر الإدارة الأمريكية استعدادها للتضحية بشريك في حالة حرب لتحقيق مكاسب سياسية داخلية.
ووفقًا للمحللين، قد تُطبق هذه الاستراتيجية على دول الناتو إذا تعرضت لهجوم، حيث قد ترفض واشنطن تفعيل المادة 5 تحت حجج مثل «عدم استحقاق» الدولة المُهاجَمة للدعم بسبب تقصيرها في الإنفاق الدفاعي.
ومثل هذه السيناريوهات تدفع الحكومات الأوروبية إلى تسريع خططها لبناء هياكل دفاعية مستقلة، وإنشاء تحالفات جانبية كبديل عن الاعتماد شبه الكلي على الحماية الأمريكية.
ردود فعل أوروبية
رغم محاولات قادة الناتو في أوروبا تهدئة المخاوف -مثل تأكيد الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، على «التزام ترامب الكامل بالتحالف»- فإن الدوائر السياسية والعسكرية تتعامل بجدية مع احتمالية انهيار الضمانات الأمنية الأمريكية.
وقد بدأت بعض الدول زيادة ميزانياتها الدفاعية بشكل استباقي، في حين تستكشف أخرى تعزيز التعاون الثنائي خارج إطار الناتو.
لكنّ التحدي الأكبر يكمن في غياب بديل حقيقي للهيكل الأمني القائم منذ الحرب العالمية الثانية، مما يترك أوروبا في موقف ضعيف إذا قررت واشنطن تحويل صفحة التحالف إلى فصل جديد من الاستقطاب الجيوسياسي.