المطمئن في الحالة التونسية أن تونس بورقيبة، تختلف اليوم عن تونس الربيع العربي، التي تعاني كغيرها من هذه الدول من المظاهرات.
برحيل محمد الباجي قايد السبسي، يكون آخر رجال العهد البورقيبي قد رحل عنا.
وبغض النظر عن الانتقادات التي كانت تواجه بورقيبة والعهد البورقيبي من بعده، فإن السبسي كان صمام الأمان للتونسيين، فهو شخصية ليبرالية تؤمن بالعلمانية وبالدولة المدنية، وتؤمن بهيبة الدولة.
المطمئن في الحالة التونسية أن تونس بورقيبة، تختلف اليوم عن تونس الربيع العربي، التي تعاني كغيرها من هذه الدول من المظاهرات والاضطرابات جراء الإرهاصات التي سببها ما يسمى الربيع العربي، والتي أفسدت الأخضر وحتى اليابس
تجربة الرئيس المنتخب شهدتها تونس مرتين، بطعمين مختلفين، فالأولى كانت بانتخاب المنصف المرزوقي، الذي اعتبره البعض مجرد واجهة سياسية للإسلام السياسي، وخاصة تحالفه مع حركة النهضة، ولعل ما قاله الرئيس الراحل في حوار مع الإذاعة الفرنسية (RMC) في27 نوفمبر 2014 بأن "الذين صوَّتوا للمرزوقي هم الإسلاميون والإرهابيون"، فالتجربة التونسية مع الرئيس المنتخب كانت في المرة الثانية مع السبسي، الذي يعتبره الكثيرون وريث الحبيب بورقيبة في الحفاظ على الدولة المدنية.
رحل السبسي عن مؤسسة الرئاسة التي ترتبط بملفات مهمة ومنها السياسة الخارجية والملف الأمني، وهي من أهم الملفات في المرحلة الحالية، وخاصة في التعاطي مع دول الجوار، لا سيما أن تونس محاطة بليبيا التي تعاني أزمة أمنية، وكذلك الجزائر، التي تشهد حراكاً، يجعل التخوفات من دول الجوار مشروعة.
غياب السبسي الذي وضع بصمته على السياسة الخارجية التونسية ومؤسسة الرئاسة، بالنأي عن سياسة المحاور، وعدم التدخل في شؤون الدول، على العكس من تجربة سلفه المنصف المرزوقي، الذي يتهم بالتدخل في شؤون الدول الأخرى ومنها ليبيا، يجعل من التخوفات من فراغ منصب الرئيس أمراً خطيراً ليس لتونس وحدها بل لدول الجوار أيضاً.
وفاة الرئيس السبسي في ظل حالة التشظي الحزبي والسياسي في حركة "نداء تونس"، وفي ظل تخوف من صعوبة ملء الفراغ بشخصية بحجم الباجي قايد السبسي وتاريخه وخبرته والكريزما الشعبية التي يتمتع بها، تأتي في ظل الظهور المجدد للمنصف المرزوقي الرئيس الحليف السابق لحركة النهضة، مجدداً دعوته لإعادة التحالف مع الحركة، للعودة للمشهد السياسي، ولو من الباب الخلفي، في ظل مشاكل واتهامات تلاحق حركة النهضة، في ملف ما عرف بالجهاز السري، والذي كشف عنه مؤخراً.
فحركة النهضة، التي تعدُّ زعيمها الغنوشي لانتخابات برلمانية تمهيداً لرئاسته للبرلمان، تلاحقها اتهامات بوجود جهازها السري، وكان آخرها ما خرج عن قصر قرطاج، وعبر عنه الراحل السبسي، بالقول: "إنني من موقعي هذا، بقطع النظر عن انتماءاتي الشخصية، أدعم الشفافية.. وإن النهضة يجب ألا تخشى هذا التحقيق إذا لم يكن لديها ما تخفيه، ولا بد أن نتأكد إن كان هناك ذراع سرية"، وهو الأمر الذي تنفيه حركة النهضة.
ولكن المطمئن في الحالة التونسية أن تونس بورقيبة، تختلف اليوم عن تونس الربيع العربي، التي تعاني كغيرها من هذه الدول من المظاهرات والاضطرابات جراء الإرهاصات التي سببها ما يسمى الربيع العربي، والتي أفسدت الأخضر وحتى اليابس، جراء الحرية غير المنضبطة. ولعل الانتقال السلمي والآمن لسلطات الرئاسة لرئيس البرلمان، ترسل إشارات مطمئنة، لمن تسربت إليه حالة التخوف من المرحلة القادمة، فالالتزام بالدستور جعل من موت رئيس حياة لرئيس جديد، من دون أي مشاكل دستورية.
تونس التي تقدَّمت خطوات كبيرة في التجربة السياسية البورقيبية، وإن تصادمت في جزء منها مع الموروث الديني للشعب التونسي بتشريع قوانين الأحوال الشخصية الجدلية، إلا أنها سرعان ما تصالحت وانسجمت معه واحتوته، وعاش التونسيون زمن الحرية واستحقاقاتها، وخاصة المرأة التونسية التي نالت حقوقها حتى كادت تتغول على حرية الرجل.
فتونس الخضراء أسست لدولة مدنية حديثة، ورغم شح الموارد استطاعت الصمود عبر تاريخها الحديث، مما شكل حالة من الاستقرار المعيشي.
تونس صاحبة إرث التعايش السلمي والمجتمعي، سريعاً ما استطاعت أن تنفض عنها غبار فوضى الربيع العربي.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة