النظام الديمقراطي في العالم الحديث يعتمد على إنشاء الأحزاب السياسية التي يتطلب تأسيسها عشرات السنين
بين تطبيق النظام الانتخابي الديمقراطي وجاهزية الشعوب والدول، هناك مسافات ضوئية يجب الانتباه لها.
فالنظام الديمقراطي في العالم الحديث -الذي يتمتع بهذه الأنظمة منذ قرون- يعتمد على إنشاء الأحزاب السياسية التي يتطلب تأسيسها عشرات السنين، ووضع خطط وبرامج تعرض بكل شفافية ووضوح استراتيجيات عملها، وأهدافها على المستوى القصير والمتوسط والبعيد، ثم انتخاب المرشح الأنسب لرئاستها وتحقيق أهدافها والتي تمثّلها قوميا ودوليا.
وما يتم تداوله اليوم في أوروبا وفي العالم الغربي في الفضاءات الأكاديمية والمنابر والمؤسسات السياسية أن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في ترسيخ النظام الديمقراطي الذي جاء نتاجا لـ"الربيع العربي" 2011. للأسف، فإن العالم يرى في التوصل لكتابة الدستور والاتفاق عليه وتطبيق الانتخابات البلدية والتشريعية هو فقط نجاح للديمقراطية. ويتغاضى المجتمع الدولي عن الفروق والمسافات بين النظري والتطبيقي.
الحيرة التي يعيشها الشعب التونسي اليوم من أجل اختيار القائد والرئيس المناسب لبلده غير مستغربة. فهو شعب عاش عشرات السنين على كاريزما الزعيم العظيم الحبيب بورقيبة، فكيف له أن يختار اليوم بين مرشحي الإخوان المسلمين من جانب، وأسماء يسمعون بها لأول مرة أسست أحزابا فقط من أجل شرعية الترشح للرئاسة
ويعتمد الجميع في تقييمهم للتجربة التونسية مثلا على مراكز أبحاث محلية وغربية مموّلة في أغلبها من نظام الحمدين القطري، الذي يدعم حركة الإخوان المسلمين في تونس، بمن بقي فيهم تحت لواء حركة "النهضة"، ومن انشق عنها "شكليا" بغرض دعمها أيضا!
لكن السؤال الرئيسي هنا هو: لماذا ابتُكرت الأنظمة الديمقراطية؟
من أبسط الأجوبة وأكثرها بداهة هي: المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية وتوفير العيش الكريم لكل المواطنين.
وما تشهده تونس ومنذ سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ما بين ارتفاع نسبة العمليات الإرهابية و"الإرهابيين" في الدّاخل والخارج حيث يتصدّرون نسبة "الدّواعش" بين العراق وسوريا. وانعدام الأمن الذي كان متوفّرا من قبل، سواء على مستوى الجرائم الفردية أو الجماعية، هذا إلى جانب الفوضى الإعلامية تحت شعارات حرية التّعبير.
والأهم من ذلك وما يشغل أغلبيّة الشعب التونسي هو ارتفاع أسعار المواد الأساسيّة، من مواد غذائية وكهرباء وغاز وبترول إلى أقصى حدودها، وانقطاع العديد من المواد عن الأسواق والتي يتم تهريبها إلى ليبيا والدول المجاورة، وهذا لغياب الرقابة وارتفاع مستويات الفساد في أجهزتها.
وإذا ما نظرنا إلى المشهد التونسي من الخارج أو من "الأعلى" نرى خطين يسيران بالتوازي، أو خطا يسير إلى الأمام والآخر يتقهقر إلى الوراء. فهناك خط يمثّل "السياسيين" وأعضاء "الحكومة" والقائمين على البلاد. والخط الثاني هو الشعب الذي لا يربطه بمن يجلسون على مقاعد السلطة رابط غير ما يقع أثناء "الفترات الانتخابية".
فالشّعب التونسي يقوم بواجباته الانتخابية بهدف ألا يضيّع فرصة الديمقراطيّة المزعومة، ثم يعود ليكتشف أن ما قام به ليس إلا مشاركة في مسرحيّة أهدافها مصالح إقليميّة أوسع من مداركه.. وأخرى فرديّة لمن يجلسون على كراسي المصالح.
الحيرة التي يعيشها الشعب التونسي اليوم من أجل اختيار القائد والرئيس المناسب لبلده غير مستغربة. فهو شعب عاش عشرات السّنين على كاريزما الزعيم العظيم الحبيب بورقيبة، فكيف له أن يختار اليوم بين مرشحي الإخوان المسلمين من جانب، وأسماء يسمعون بها لأول مرة أسست أحزابا فقط من أجل شرعية الترشح للرئاسة.
ضاعت البوصلة بين الشعب ومن يريدون الحكم في تونس، خلل لم يسبق له مثيل في الديمقراطيات الحديثة.
وللحديث بقية..
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة