تصنيف كلّ حزبٍ كردي أو يؤيد الأكراد ويطالب بحل قضيتهم سلمياً مع بقية قضايا الأقليات، جماعة "إرهابية"، يقابله عزمٌ أكبر بمواصلة العمل.
تُركِّز وسائل إعلامٍ تركية داعّمة لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان على نيّته هذه الأيام بحظر حزب "الشعوب الديمقراطي" المعارض له، لكن ما الذي ستستفيد منه الحكومة التي يقودها حزب "العدالة والتنمية" بالتحالف مع حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرّف من حظر هذا الحزب، وإغلاق مكاتبه بعد تصنيفه كجماعة "إرهابية" بذريعة صلاتٍ مزعومة تربطه بحزب "العمال الكُردستاني"؟
في الواقع، تكرر مسلسل حظر الأحزاب الكردية أو التركية المؤيدة للأكراد كثيراً حتى بات مملاً، فقد سبق لأنقرة وأن حظرت بعضها وصنفتها كجماعاتٍ "إرهابية" بذريعة صلاتها المزعومة مع "العمال الكُردستاني"، وعلى سبيل المثال أواخر عام 2009، أقرّت المحكمة الدستورية العليا (وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد)، بحلّ حزب "المجتمع الديمقراطي" وكان لديه 20 نائباً في البرلمان التركي كمستقلين حينها، وكان امتداداً لحزبٍ آخر صنفته أنقرة كجماعة "إرهابية" أيضاً.
لكن قبل حلّ "المجتمع الديمقراطي" بأكثر من سنة، ظهر حزبٌ آخر وهو "السلام والديمقراطية" في العام 2008 وأكمل مشروع الحزب الأول نتيجة حظره رسمياً. وبعد ذلك بسنوات صعدت أنقرة كعادتها من هجومها على حزب "السلام والديمقراطية"، الذي يعد امتدادا لحزبين تمّ حظرهما في السابق وتصنيفهما كجماعتين "إرهابيتين". وكالعادة قبل أن تقوم بحظره بالذريعة السابقة وهي وجود صلات تربطه بـ "العمال الكردستاني"، تأسس حزبٌ آخر وهو "الشعوب الديمقراطي" في العام 2012.
وعلى غرار تجربة حزب "السلام والديمقراطية" لم يحصر هذا الحزب نفسه في الإطار الكردي، بل قدّم نفسه لكلّ تركيا، لذلك انضم الأتراك، السريان، الأرمن، والعرب على نطاقٍ واسع إلى "الشعوب الديمقراطي" واليوم يقوده سياسيٌ عربيٌ تركيٌ ينحدر من مدينة نصيبين وهو بروفيسور في القانون الدستوري والعام، واسمه مدحت سانجر.
هذا الإصرار المتواصل لدى أنقرة على تصنيف كلّ حزبٍ كردي أو يؤيد الأكراد ويطالب بحل قضيتهم سلمياً مع بقية قضايا الأقليات، على أنه جماعة "إرهابية"، يقابله عزمٌ أكبر بمواصلة العمل لأجلهم مهما حصل. والنتيجة الحتمية لمسلسل الحظر المتواصل بحق هذه الأحزاب منذ عقود، هي: مع حظر كلّ حزب يؤيد الأكراد، سيظهر تلقائياً حزبٌ آخر.
لذلك لم تستفد أنقرة أبداً من حظر هذه الأحزاب، بل ساهم هذا الأمر بازدياد شعبيتها، فبعد أن كشفت أنقرة عن نيتها في حلّ حزبٍ يؤيد الأكراد وهو "السلام والديمقراطية"، تمكّن حزب "الشعوب الديمقراطي" في نفس التوقيت من هيكلة نفسه ومن ثم الحصول على 80 مقعداً في البرلمان التركي صيف العام 2015، وبذلك أصبح ثالث أكبر حزب تركي وربّما أكثرهم أهمية، خاصة وأنه ساهم العام الماضي في حسم المعركة الانتخابية على بلدية اسطنبول الكبرى لصالح أكرم إمام أوغلو مرشح حزب "الشعب الجمهوري" المعارض لأردوغان، لذلك زاد الأخير من حجم ضغوطه على حزب "الشعوب الديمقراطي" باعتباره يشكل تهديداً كبيراً عليه في أي انتخاباتٍ مقبلة.
واللافت أنه منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" الذي يتزعمه أردوغان إلى الحكم في تركيا، قامت "المحكمة الدستورية العليا" بحظر عدّة أحزابٍ مؤيدة للأكراد بعدما كانت في السابق تستهدف الأحزاب الإسلامية فقط، لذلك ازداد نفوذ الأحزاب الأخيرة على حساب المعارضة التي صُنِفت عدة أحزاب منها كتنظيمات "إرهابية"، في الوقت الذي رفضت فيه "المحكمة الدستورية" نفسها حظر أنشطة حزب أردوغان ذو الجذور الإسلامية في العام 2008.
وبالتالي هناك حملة تقودها السلطات التركية اليوم ضد المعارضة غير الإسلامية والتعددية، لذلك لا تكمن المشكلة على الإطلاق لدى حزب "الشعوب الديمقراطي" أو الأحزاب التي حظرتها أنقرة لتأييدها للأكراد، بل في سياسة أنقرة تجاهها، فقد كانت ترفض أن يحمل الأكراد السلاح في وجهها كما فعل حزب "العمال الكردستاني" في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، لكن حين توجّه الأكراد إلى السياسية والبرلمان صُنِفوا مباشرةً كـ "إرهابيين" متعاطفين مع "العمال الكردستاني"، وفق لائحة اتهامات أنقرة الجاهزة!
واليوم يقبع الزعيم الكردي صلاح الدين دميرتاش الرئيس المشارك الأسبق لحزب "الشعوب الديمقراطي" خلف القضبان منذ نحو أقل من 4 سنوات، مع الرئيسة المشاركة السابقة للحزب والمعارضة التركية المعروفة فيغان يوكسك داغ. وتتهمهما أنقرة بالتعاطف مع "العمال الكردستاني" وتعتبرهما إرهابيين مع 7 برلمانيين آخرين. والمفارقة أن هؤلاء جميعاً اُحتجزوا في وقتٍ كانوا يتمتعون فيه بالحصانة النيابية التي أمر أردوغان بإسقاطها عنهم لاحقاً.
وإلى جانب نواب حزب "الشعوب الديمقراطي" المحتجزين منذ سنوات، يقبع المئات من رؤساء بلدياته المنتخبين، في السجون التركية بعد عزلهم من مناصبهم. وصدر بحق بعضهم أحكام بالسجن لمدّة تصل لـ 16 عاماً. كما تقود أنقرة بين الحين والآخر حملاتٍ أمنية تستهدف قواعد الحزب المؤيد للأكراد، ففي شهر يوليو الماضي اعتقلت 23 سيدة من أعضائه في مدينة ديار بكر جنوب شرقي البلاد. وكذلك اعتقلت 33 آخرين بمدينة غازي عينتاب على الحدود مع سوريا.
وكما جرت العادة تتهم أنقرة قادة هذا الحزب ونوابه ورؤساء بلدياته إضافة إلى عدد كبير من أنصاره المحتجزين في السجون بالتعاطف مع حزب "العمال الكردستاني"، لكن للمفارقة أيضاً أن النواب ورؤساء البلديات وقادة الحزب الذين كانوا أيضاً نواباً في البرلمان، والمعتقلين اليوم، كانوا قد خضعوا لتحقيقاتٍ ومراقبةٍ أمنية من جهة الاستخبارات التركية ووزارة الداخلية، وكانت نتائجها عدم وجود ممارسات ارتكبوها تدينهم، لذلك سمحت لهم بالترشح لانتخابات البرلمان والبلديات التي حصلوا على إثرها على 71 منها في العام 2019 قبل أن تعزل أنقرة رؤساء 45 بلدية منها على الأقل هذا العام والعام الماضي. والسؤال الآن: كيف تحوّل هؤلاء كلهم إلى "إرهابيين" بشكلٍ مفاجئ ؟!
في الحقيقة، الإجابة سهلة وهي كالتالي: في تركيا، تتحوّل بسهولة لإرهابي إن كنت كردياً، وقد شهد هذا الشهر والأشهر الأخيرة مقتل عددٍ من الأكراد على يد المتطرّفين الأتراك لمجرّد أنهم أكراد في ظاهرةٍ باتت تتكرر باستمرار في البلاد. وكذلك تتحول لإرهابي لمجرّد تأييدك لحصول الأكراد على حقوقهم أو لمطالبتك بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، كما حصل مع حزب "الشعوب الديمقراطي" الذي يؤيد الأكراد وحقوقهم. وكان قد اعترف ببرنامجه السياسي بالمجازر الأرمنية في زمن "السلطنة العثمانية".
ولهذا كله، يجب على المجتمع الدولي حث أنقرة على تغيير سلوكها مع الأقليات الذين يشكلون نحو ثلثي السكان بدلاً من تساهله الدائم مع ممارساتها بحق الحزب المؤيد للأكراد، والذي يستعد في الوقت الحالي للظهور باسمٍ آخر حال تصنيفه كجماعة "إرهابية" وسيعود مجدداً إلى البرلمان ورئاسة البلديات وكأن شيئاً لم يحصل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة