من أولويات خطوات السلام، إخراج هذه القضية من براثن أجهزة بعض الدول الإقليمية التي تتلاعب بها وتستغلها لأجندتها الخاصة.
تحقيق السلام غاية ما بعدها غاية، ولو عرف المرء القيمة الحقيقية للسلام لقال مباشرة ودون تردد، لماذا تأخرنا كل هذه العقود عن تحقيقه؟ سؤال سيطرحه بالتأكيد استدراكا لكل الدمار والضحايا والأموال المهدورة التي أهدرت في الحروب والصراعات التي نشبت في منطقتنا.
وعليه فإن التحدي الأكبر الذي يواجه منطقتنا بعد اليوم، هو كيفية تحويل معاهدات السلام التي وقعت والتي ستوقع لاحقا إلى سلام حقيقي في المنطقة، فالقضية هنا ليست توقيع معاهدات سلام بحد ذاتها بل خلق سلام حقيقي بين الشعوب من خلال رسم تاريخ جديد، وهو ما يطرح السؤال التالي: ما الذي يجب أن يتغير في المنطقة بعد التوقيع على معاهدات السلام؟.
بداية، لا بد من القول لأصحاب الطموحات الإمبراطورية المدفونة في التاريخ وتوابعهم من أصحاب الخطابات الرنانة والأيديولوجيات الكلية، إن وضع معاهدات السلام في إطار الأهداف الانتخابية والسياسية لكل من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو ليس إلا قصر نظر سياسي، وعدم إدراك لقيمة السلام، فالسلام بات استحقاقا للجميع، ويتطلب من الجميع تقديم تنازلات، وإجراء تحولات عميقة بحثا عن المستقبل، لا البقاء لعقود أخرى في صراع وصل إلى طريق مسدود، وإن أي مقاربة قديمة له ستكون أثارها كارثية تفوق ما حدث خلال العقود الماضية. وعليه، فإن السلام هو امتحان المصير للجميع دون أن يعني التنازل عن الحقوق، كل ذلك في إطار رؤية حقيقية تقوم على الاعتراف بالآخر وحقوقه والتعايش السلمي والتعاون والتكامل في الاقتصاد والسياسة والأمن.
لعل من شأن معاهدات السلام التي وقعت قديما وحديثا، المساهمة في إيصال قوى سياسية تؤمن بهذه الحقوق، من خلال إحداث تغيير فكري وثقافي في البنية السياسية التي أوجدتها قوى اليمين المتطرف والأيديولوجي. وكي يصبح السلام حقيقيا، ينبغي على إسرائيل اتخاذ اجراءات وخطوات حقيقية تمس حياة الفلسطينيين، ولاسيما في مجال وقف الاستيطان والإفراج عن الأسرى وتسهيل حياة الفلسطينيين، فمثل هذه الخطوات كفيلة بتأسيس الثقة والانتقال إلى مرحلة جديدة.
في المقابل، ثمة تحديات كبيرة يواجهها الفلسطينيون من أجل تحقيق السلام ونيل الحقوق، ولعل من أهم هذه التحديات، الكف عن جعل القضية الفلسطينية قضية أجندة إقليمية لهذه الدول أو تلك ولاسيما تركيا وإيران، خاصة وأن هذه الدول أدمنت على استغلال القضية الفلسطينية لأسباب داخلية لها علاقة بالسلطة، وأخرى خارجية لها علاقة بمشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة.
والتحدي الثاني يكمن في كيفية وضع نهاية لثقافة التطرف والعنف والتعليب الأيديولوجي، لأن مثل هذه الثقافة لن تجلب سوى المزيد من الدمار في وقت تغيرت فيه الظروف والحقائق والمعطيات، والتحدي هنا لا يتعلق بالموقف الفلسطيني من إسرائيل فحسب، بل بالبيت الداخلي الفلسطيني نفسه، بفعل الانقسام والصراع والاصطفاف الذي نخر فيه و وصل إلى العظم، في وقت بات الاقتصاد الفلسطيني مرتبطا إن لم نقل جزءا من الاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما يجب أن يدركه الفلسطينيون لأن المسألة تعني مستقبلهم، وغير ذلك يعني الموت على أبواب الشعارات والخطابات والأيديولوجيات التي تجاوزها الزمن.
عربيا، التوقيع على معاهدات سلام مع إسرائيل، يعني أن الدول العربية التي وقعت على هذه المعاهدات اتخذت السلام خيارا استراتيجيا للمستقبل، من خلال الدخول مع الآخر في مرحلة جديدة من التعاون والشراكة والتكامل، وهذا مسار جديد ومهم، هدفه وقف التدخلات الإقليمية أولا، ومواجهة قوى التطرف والإرهاب ثانيا، وتحويل معاهدات السلام إلى برامج عمل وتعاون وفائدة مشتركة ثالثا. وجعل السلام مسارا للديمقراطية والإصلاحات الدائمة رابعا.
وكل ما سبق لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية، إذ إنها ستبقى قضية عربية ثابتة في المحافل السياسية، بل من أولويات خطوات السلام، إخراج هذه القضية من براثن أجهزة بعض الدول الإقليمية التي تتلاعب بها وتستغلها لأجندتها الخاصة. فما جرى لا يعني أن الصراع انتهى بقدر ما يعني الانتقال إلى حل القضايا العالقة عبر الوسائل السياسية والسلمية، ووفق قواعد وقرارات دولية تحفظ الحقوق، وهو ما يجب أن يدركه الفلسطينيون جيدا، من خلال إدراك أهمية الفرصة الجديدة التي وفرتها معاهدات السلام، والكف عن العمل لصالح الأجندة الإقليمية، فضلا عن وقف بعثرة الجهود على مذبح الانقسام والمزايدات السياسية والخطابية.
بالقدر الذي يشكل فيه السلام تحديا عربيا وإسرائيليا وفلسطينيا، فإنه في الوقت نفسه تحد أمريكي ودولي، والتحدي الدولي يكمن في العمل من أجل إنجاح هذا المسار، عبر الضغط على إسرائيل لمنح الفلسطينيين حقوقهم، والعمل الجدي من أجل وضع نهاية لثقافة التطرف والعنف على الجانبين، فالسلام الحقيقي يبقى مع الفلسطينيين، وأهمية معاهدات السلام التي وقعت، وتحديدا المعاهدة الإماراتية – الإسرائيلية هي في تأمين المسار لمثل هذا السلام، كي يصبح سلاما يعم المنطقة بأكملها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة