المحليات التركية.. تثبيت طموحات أردوغان السلطوية
يبدو أن الانتخابات المحلية التركية المرتقبة ستكون مختلفة عن كل ما سبقها من استحقاقات محلية سابقة.. فهذه الانتخابات ستكون شائكة ومعقدة
تعد الانتخابات المحلية التركية، المقرر لها مارس 2019، جولة مصيرية بالنسبة لعدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية، خاصة حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يسعى إلى تثبيت طموحات الرئيس أردوغان السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة.
مع الانتخابات البلدية التركية تطفو على السطح عدة قضايا مثيرة للجدل، منها الحفاظ على هوية الدولة التركية، وعلاقة الحكومة التركية بالأكراد، والمعارضة العلمانية.
لكن في الوقت الذي تستعد فيه تركيا للانتخابات المحلية ضعف كثيراً ارتباط حزب العدالة والتنمية بالمجتمع، كما أن "تحالف الشعب" الذي جمع أردوغان مع حزب الحركة القومية وحزب الاتحاد الكبير في الانتخابات التي أجريت في 24 يونيو 2018، رغم استمراره، إلا أنه يعاني من التصدع في ظل اتساع رقعة الخلاف بين أردوغان ودولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية المعارض، لرفض الأخير جزءاً واسعاً من سياسات الرئيس أردوغان.
تراجع حزب العدالة والتنمية
أدى تحول حزب العدالة والتنمية منذ تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي إلى حزب الدولة والبيروقراطية، إلى خسارته جانباً من قاعدته الانتخابية لمصلحة أحزاب المعارضة التي حققت حضوراً لافتاً في الشهور الماضية.
وتشير بعض التوقعات إلى احتمال تعرض حزب أردوغان لأكبر خسارة في الانتخابات المحلية المقبلة، خاصة في المدن الكبيرة مثل أنقرة وإسطنبول وأزمير وآضنة وقونيا، إضافة إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية، إذا تمكنت الأحزاب المعارضة من خوض الانتخابات بمرشحين مشتركين.
ولم يقلص فوز رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية الأخيرة من حدة التحديات التي تواجه النظام التركي في استحقاق المحليات، حيث يتزامن مع تزايد الاستقطاب المجتمعي، والاختلالات الاقتصادية في البلاد خلال الأشهر الماضية، على غرار تدهور قيمة العملة مقابل الدولار، إضافة إلى توبيخ الاتحاد الأوروبي لأنقرة بفعل سياستها تجاه الأكراد.
ويسعى الرئيس أردوغان إلى توظيف واستثمار التصعيد ضد الأكراد في تأمين أكبر قدر من الأصوات القومية لصالح حزبه في الانتخابات المحلية المقبلة، سواء عبر رفض الإفراج عن الزعيم الكردي عبدالله أوجلان والنائب البرلماني صلاح الدين دميرطاش والمحبوس احتياطياً دون سند قانوني منذ نوفمبر 2016، أو عبر دعوة أردوغان في أكتوبر الماضي حكومته إلى وضع يدها على البلديات التي سيفوز بها من وصفهم بالمقربين من الإرهاب، في إشارة إلى حزب الشعوب الديمقراطية.
عصا أردوغان في وجه الأكراد
الأرجح أن رفع أردوغان العصا الغليظة في وجه الأكراد، ورفضه تطبيق حكم المحكمة الأوروبية الصادر في 20 نوفمبر الماضي بضرورة الإفراج عن دميرطاش، يأتي في سياق إدراك أردوغان أن شعبيته اهتزت بشكل كبير، ولذلك هو في أمس الحاجة إلى دعم حزب الحركة القومية الذي تجمعهما رغبة مشتركة في التصدي لكل طموحات الحركة السياسية الكردية في تحقيق أهدافها.
يظهر مما سبق أن ملامح ملف الانتخابات المحلية المرتقبة تبدو مختلفة عن كل ما سبقها من استحقاقات محلية سابقة، فهذه الانتخابات ستكون شائكة ومعقدة، ومفتوحة على أكثر من صعيد، كما أنها تبدو مختلفة كلياً من حيث التكتيكات أو الأهداف، لرغبة الرئيس أردوغان في تفصيل المشهد المحلي على مقاس طموحاته، ورفض المعارضة التركية على اختلاف توجهاتها السياسية السياسات الأحادية التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية.
وتعتبر المعارضة انتخابات 31 مارس 2019 المخرج الأخير لتركيا قبل أن تدخل نفقاً مظلماً لا يلوح فيه أي بصيص للديمقراطية، خاصة أنه لا توجد أي انتخابات أخرى مقررة حتى عام 2023.
في سياق متصل، فإن المعارضة التركية ستعمل على تعظيم حضورها في الانتخابات المحلية المقبلة للضغط على مؤسسة الرئاسة وحزب العدالة والتنمية، من أجل إثبات عدم صلاحية النظام الرئاسي، الذي تراه يؤسس لحقبة جديدة في تاريخ البلاد.
وراء ما سبق، فإن هذه الانتخابات يتوقع أن تعزز حالة الاستقطاب السياسي التي تعانيها تركيا منذ الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، ثم الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل 2017.
كما ستعزز هذه الانتخابات من مساحات التوتر بين النظام التركي والأكراد جنوب شرق تركيا، وكان بارزاً هنا تعيين السلطات التركية 94 قائماً بالأعمال من بين رؤساء 102 بلدية في المدن والبلدات ذات الأغلبية الكردية، كانوا فازوا في الانتخابات المحلية التي أجريت في عام 2014، حيث بدأت السلطات التركية في عزلهم منذ انقلاب 2016.
في هذا السياق العام، فإن ثمة تداعيات متوقعة على الحياة السياسية التركية ستفرزها الانتخابات المحلية المقبلة، أولها أن هذه الانتخابات تكشف عن تراجع شعبية أردوغان وتحالفه السياسي، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن شعبية حزب العدالة والتنمية انخفضت إلى 33%.
لذلك يسعى أردوغان بشكل مكثف إلى استخدام كافة الأوراق لضمان حسم معركة المحليات، بدءاً من تجنيد المساجد للدعاية الانتخابية لمصلحة حزبه، وكذلك الدفع في البلديات المقبلة بمرشحين يتمتعون بقبول شعبي لضمان الفوز، خاصة في البلديات الكبيرة.
وتعكس مساعي أردوغان في تأمين مرشحي الاستحقاق المحلي شعورا عميقا باليأس، لدرجة أنه حاول إقناع أحد أكثر مؤيديه، وهو بن علي يلدريم رئيس البرلمان، ليرشح نفسه لمنصب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، لكنه فشل في حمله على التقدم بأوراقه.
على صعيد متصل، فإن إسراع أردوغان إلى توطيد سلطته في الداخل عبر جهوده للهيمنة المطلقة على البلديات، قد يعرض الديمقراطية التركية لخطر أكبر، فضلاً عن تداعيات سلوك أردوغان تجاه إدارة المشهد المحلي على تصاعد حدة الاستقطاب داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، فقد تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة الخلافات بين مؤسسة الرئاسة وداخل الحزب نفسه، وتجلى ذلك في استهداف الحكومة رؤساء بلديات من الحزب الحاكم ذاته، فأجبرت الحكومة قبل عدة شهور 6 رؤساء بلديات مدن كبرى من حزب العدالة والتنمية على الاستقالة، في محاولة لإقصاء جناح الممانعة داخل الحزب قبل بدء الانتخابات المحلية 2019.
ويسعى حزب العدالة والتنمية إلى السيطرة على كامل المقاعد المحلية لتعويض عجزه في تأمين أغلبية برلمانية، ولم يسعفه التحالف مع حزب الحركة القومية في ذلك، إضافة إلى رغبة الرئيس التركي في تحسين صورته الذهنية التي شهدت تراجعاً بفعل الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر الليرة التركية، وهو ما أضر بسجل أردوغان الطويل من ناحية الازدهار المتزايد في تركيا.
ويتعلق الأمر الثاني بمسألة الهوية التركية، حيث يضمن فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات المحلية إعادة هندسة كامل الحياة العامة في تركيا، فسيطرة أحزاب المعارضة على بعض البلديات التركية، خاصة الكبيرة منها، يمثل تحدياً ضاغطاً على توجهات الرئيس أردوغان.
السيطرة على المحليات بجوار صلاحيات النظام الرئاسي المطلق يمنح العدالة والتنمية فرصة ممتازة لإعادة هندسة المجتمع التركي بما يتوافق مع قناعاته الإيديولوجية، خاصة أن باقي مؤسسات الدولة التي كانت تحافظ على ثبات المبادئ العليا للدولة باتت مضغة لينة في فم السلطة وفي الصدارة منها الجيش، والبرلمان الذي فقد جانبا معتبرا من اختصاصاته، وكذلك المؤسسة القضائية.
خلف ما سبق، قد تسفر الانتخابات المقبلة عن تراجع الحضور الكردي في المشهد المحلي لمصلحة تعزيز، والحفاظ على التحالف الإسلامي القومي الذي يضم العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وبدا ذلك في مطالبة أردوغان علنية بمنع وصول أي مرشح كردي للفوز في الانتخابات المحلية المقبلة، وإصرار حكومة العدالة والتنمية على فرض سياسة الأمر الواقع في مواجهة الأقلية الكردية دون الاستجابة لمطالبها الملحة.
وعلى الرغم من تأرجح مواقف بهجلي زعيم حزب الحركة القومية في دعمه لأردوغان في الفترة الأخيرة، لم تعد تهديداته بالانسحاب من التحالف في الانتخابات المحلية المقبلة سوى كونها مناورات تكتيكية، وفي الوقت الذي يبدو فيه حزب العدالة والتنمية أكثر ضعفا يعزز بهجلي نفوذه للدرجة التي أصبح فيها أردوغان بمثابة رهينة لديه.
في المقابل، فإن سلوك حزب العدالة والتنمية في إدارة الانتخابات المحلية المقبلة -إضافة إلى التغييرات التي يتبناها في شكل وبنية الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد- قد يسهم في تعميق الشكوك بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، خاصة حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير وحزب السعادة والقوى العلمانية، والتي تسعى عبر الانتخابات المحلية المقبلة إلى تحجيم نفوذ الرئيس أردوغان.
إجمالا يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية سيسعى إلى الهيمنة المطلقة على جميع البلديات المحلية لتدعيم سلطة الرئيس أردوغان، لكن تبقى فرصة أوفر للمعارضة في نيل عدد كبير من المقاعد البلدية مقارنة بما كان عليه الحال في الاستحقاقات السابقة، بالنظر إلى تراجع زخم الحزب الحاكم وسط مؤيديه وفي أوساط الأقليات التركية.
والواقع أن قسماً كبيراً من الأصوات التي ظل يحصدها حزب أردوغان مع كل استحقاق انتخابي فيما مضى كان يأتيه صاغراً ليس عن اقتناع، وإنما لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل ناهيك عن أن أحزاب المعارضة الرئيسية كانت تصر على النهج الإيديولوجي الذي يغفل الاهتمام بالاقتصاد والسياسة الخارجية لمصلحة البنية الفوقية التي تتعلق بالإيديولوجيا ونسق القيم والأفكار.
غير أن ثمة تطور إيجابي في ذهنية المعارضة التركية فيما يخص الاشتباك مع قضايا الواقع، وكان بارزاً الحضور القوى لمرشحي المعارضة في الانتخابات الرئاسية الماضية، خاصة محرم إنجة مرشح حزب الشعب الجمهوري، الذي لم تخل أجندته الانتخابية من القضايا الملحة التي تهم الناخب التركي.
وكذلك المرشح الكردي صلاح الدين دميرطاش الذي خاض المنافسة من محبسه وحل ثالثاً في نتيجة الاقتراع، ونجح نسبياً في توسيع رقعة انتشار الأكراد حزبياً وسياسياً خارج مناطق الكثافة السكانية الكردية في جنوب شرق تركيا، وتقديم حزب الشعوب الديمقراطية كحزب سياسي يعمل في نطاق تركيا بأكملها.
كما يبقى فوز مرشحي العدالة والتنمية هذه المرة متوقعاً في ظل هيمنة الحزب على مقاليد الدولة ومؤسساتها، ولكنه محفوف بالخوف والقلق في ظل تآكل الرصيد التقليدي للحزب، وكشف عنه مناخات التردي الاقتصادي وتراجع تصنيف تركيا اقتصاديا، وضعف مناعتها الإقليمية والدولية.
aXA6IDEzLjU5LjExMi4xNjkg جزيرة ام اند امز