التوصل لخيارات في التعامل مع أزمات العرب سيتطلب وقفة من الدول المركزية وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر لترميم أركان النظام الإقليمي.
ما زال الشرق الأوسط -وفي القلب منه الدول العربية- يواجه صعوبات وإشكاليات متعلقة بحالة الاستقرار السياسي المنشود، وفي ظل مخاوف من استمرار الأوضاع السياسية والاستراتيجية على ما هي عليه، واحتمال الانفتاح العربي لإقامة علاقات عربية إقليمية تتجاوز التعامل مع إسرائيل في واقعها الراهن، وبدون الالتزام بإقرار مبادئ التسوية العربية المقترحة والممثلة في أفكار المبادرة العربية ببنودها المعروفة، والتي ستظل المشروع العربي المطروح، ولبعض الوقت وإلى حين تتضح الصورة جليا على الجانب الآخر.
سيظل الإقليم العربي يبحث عن استراتيجية حقيقية للتوصل لحلول وخيارات أكثر استقرارا وثباتا، وهو ما يجب أن يوضع في الاعتبار -مع أي مشروع تسوية أمريكي مرتقب- على أساس أن استمرار الأزمات العربية ليس في صالح الدول العربية بل على العكس سيظل تحديا حقيقيا يجب التعامل مع تبعاته
ومن الواضح أن الإقليم العربي المضطرب في حاجة إلى استقرار خاصة في الدول التي تفتقر إلى ذلك سواء في السودان أو الجزائر، ومن قبل في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وهو ما يعني أن العالم العربي تنتظره سيناريوهات ومشاهد متعددة وسينفتح بطبيعة الحال على تصورات ربما أكثر وضوحا في الفترة المقبلة متجاوزا ما سيجري من تطورات حقيقية متعلقة بالمخطط الأمريكي الكامل في المنطقة؛ فلن تهدأ الأوضاع بطبيعة الحال في الجزائر بسهولة في ظل خيارات عديدة ومرحلة انتقالية قد تطول بعض الوقت، وهو ما سيتكرر في الحالة السودانية.
وبالتالي فإن الإشكالية الحقيقية سترتبط بالبحث عن تسويات بعضها يتعلق بالداخل العربي وإمكانية تحقيق استقرار سياسي عقب كل تغيير مثلما سيحدث في حالتي السودان والجزائر، وإتمام تسويات منقوصة في دولة مثل سوريا -ما زالت تواجه مدا وجذبا صعودا وهبوطا- حول الهدف السياسي والاستراتيجي وبناء استحقاقات سياسية حقيقية ثابتة ومستقرة، وهو أمر كان متوقعا أن يتم خلال الفترة الأخيرة، ولم يحدث.
ولعل غياب الإرادة السياسية بين الدولتين الكبيرتين روسيا والولايات المتحدة هو الذي يحول دون إتمام ذلك، وما يتكرر في الحالة العراقية من تطورات سياسية ومطالبات بإعادة ترتيب الأولويات وبناء خريطة وطنية تحتاج إلى موقف وطني مسؤول، خاصة أن هناك أطرافا إقليمية عابثة بأمن الإقليم في الداخل الفلسطيني وفي اليمن وفي مناطق أخرى، وهو ما يتمثل تحديدا في التدخلات الإيرانية الحالية والمستمرة والتي تنطلق من دعاوى أيديولوجية وسياسية وأمنية.
وستستمر حيث لا رجعة عن هذا الخط السياسي الراهن، كما يتمثل الخطر التركي أيضا على العالم العربي ليس في سوريا فقط حيث الاهتمام الأول بقضية الأكراد ولكن أيضا ما يمثله الحضور التركي من تبعات حقيقية مكلفة على الأطراف العربية، والأمر يتجاوز بالفعل أي حسابات سياسية واستراتيجية للتحركات التركية في الإقليم بأكمله، وبالتالي فإن أي تسوية في الملف السوري سترتبط أيضا بالملف الكردي وتدخل الأطراف السورية والعراقية والإيرانية؛ ما قد يرتب تسوية منقوصة، وليست كاملة، كما يجب الانتباه إلى أن الأطراف الإقليمية لا يمكن أن تقبل بأي سيناريو ما لم تتم مباركته دوليا، وبدعم ومساندة دولية كاملة.
ومن ثم ستظل الملفات العراقية والسورية عالقة في ظل مواءمات سياسية خطيرة ستشهدها هذه الدول، وغيرها وفي ظل تمدد للدور الإيراني في الإقليم، والذي يجب أن تكون له وقفة حقيقية وجادة وكاملة، وإن كان يتحرك في ظل استراتيجية تطويق وحصار إيران، واستعادتها من خلال اتفاق أمني جديد يتلافى الاتفاق النووي السابق، ويؤدي إلى إيقاف التدخلات الإيرانية في المنطقة من خلال مقاربة سياسية وأمنية واستراتيجية جديدة؛ حيث يمكن للرئيس الأمريكي دونالد ترامب التأكيد على قدرة الإدارة الأمريكية على إيقاف الخطر الإيراني في المنطقة.
إن أي تسوية مطروحة في ملفات الإقليم ستحتاج إلى شروط ومتطلبات ربما لا يستطيع أي طرف من الأطراف القائمة عدم الإيفاء بها أو الانطلاق من معطياتها مثلما يجري في الملف الليبي الذي يعود للمربع رقم صفر من جديد، وهو ما قد يكون مدخلا لمواجهات ستستمر في الفترة المقبلة وانطلاقا من أن المعادلة ستكون صفرية. كما يجب التحسب للتداعيات المحتملة على دول الجوار مثل مصر والجزائر وتونس، وفي ظل رهانات بأن الأوضاع في ليبيا تفتقد أي حل أو تسوية، وأن المشهد بأكمله مرحل لمزيد من السيناريوهات السياسية والأمنية، ربما ستكون هناك تسوية منقوصة، وغير كاملة سيدفع ثمنها كل الأطراف في المشهد خاصة مع حالة القبول بإدارة المشهد الليبي وليس حله أو محاولة تفكيك عناصر الأزمة المستمرة منذ سنوات، وقد يستمر لسنوات في ظل مصالح إقليمية ودولية متضاربة وتحتاج إلى ترتيب حسابات وبناء تواقات حقيقية.
المعنى أن التسويات المعلقة لن تحل من خلال البحث عن وسطاء أو جدول أعمال أو خيارات في منتصف الطريق، وهو ما يمكن أن يرتب حلولا توافقية مع استمرار الصدامات على ما هي عليه وهو ما يجري في التعامل مع الملف الفلسطيني عبر استراتيجية تقاطعية لمصالح واضحة لا تنظر إلى الحلول النهائية أو التوصل لخيارات وطنية، وهو ما سيدفع لتفكك الوطن الفلسطيني بأكمله من خلال إبقاء الأوضاع في قطاع غزة على ما هي عليه، وتقديم تسهيلات اقتصادية سترتبط بمشروع التسوية الأمريكية المرتقب وسواء صدر في شكل صفقة أو مشروع أو لم يصدر أصلا، وهو ما يعني أن إقامة دويلة غزة وارد وبقاء الضفة لتقرر مصيرها لاحقا محتمل، وهو ما قد يحسم القضية الفلسطينية بأكملها.
في مثل هذه الأوضاع السياسية والاستراتيجية قد يكون الحل فرض تسويات جديدة لأزمات قديمة من خلال توافقات عربية بالأساس، ولأطراف المواجهات سواء في الأراضي الفلسطينية أو في سوريا في ظل ممارسات تيار شارد ومراوغ ويبحث عن دور مركزي، ويرفض الاحتكام للواقع مستقويا بالجانب الإيراني التدخلي، والذي يزيد بوجوده العسكري، ودعمه للجانب الحوثي مزيدا من التوتر، والاضطراب في المنطقة بأكمله. وهذا ما يتطلب العمل على خلق مسارات حقيقية للضغط على الجانب الإيراني، واستمرار الضغط عليه من أجل إثنائه عن الاستمرار في إدارة المشهد اليميني بهذه الصورة غير المسبوقة، وهو ما يجب أن تكون له مراجعة حقيقية من القوى الدولية، وليس من قبل الولايات المتحدة فقط.
هذا الإقليم العربي المضطرب سيحتاج إلى ضوابط عمل جديدة، وتدخل عربي عربي بالأساس وليس فقط الاستقواء بالخارج في ظل استراتيجيات دولية متشابكة ومعقدة للغاية، وتبحث عن وسائل حقيقية لتحقيق ما يتم التخطيط له، وهو ما عبرت عنه مشروعات دولية ما زالت تحاك بالإقليم ولا تتوقف عند قضية الصراع العربي الإسرائيلي فقط بل ستمتد إلى دول وكيانات ومناطق أخرى، وهو ما يدفع الدول العربية لإعادة ترتيب حساباتها السياسية والاستراتيجية بصورة واضحة مع العمل من منطلقات سياسية وأمنية واستراتيجية تضع الأمن القومي العربي على أي أمن آخر، وانطلاقا من حقائق ومعطيات ما يجري ويهدد أمن المنطقة بأكملها.
إن التخطيط لتفعيل التوجهات العربية العربية من جانب والعربية الدولية من جانب آخر سيتطلب أولا عقد وحصر الأولويات العربية التي يجب العمل من خلالها مع عدم إغفال طبيعة التحالفات العربية الدولية والتي سيكون لها دور في تمرير أي تسويات قائمة خاصة، خاصة أن التوصل لخيارات وسط أو توافقية لن تكون مجدية في ظل الرهانات على استمرار هذه الأوضاع على ما هي عليه وعدم السعي جديا لحل الأزمات العربية تباعا.
إن التوصل لخيارات حقيقية في التعامل مع الأزمات العربية سيتطلب وقفة من الدول العربية المركزية وعلى رأسها السعودية ومصر والإمارات للمضي قدما في ترميم أركان النظام الإقليمي العربي في مواجهة التحديات، والمخاطر التي تواجه المنطقة بأكملها مع العمل مع الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة لمواجهة الخطر الإيراني، ومن ثم فإن أي حسابات سياسية أو استراتيجية ستكون مرتبطة بمواقف أكثر تأثيرا وفعالية وارتباطا بالمشهد العربي بأكمله، وهو ما يجب أن يحظى بدعم وتأكيد ومشاركة رئيسية من الدول الكبيرة المسؤولة في المنطقة بأكملها.
سيظل الإقليم العربي يبحث عن استراتيجية حقيقية للتوصل لحلول وخيارات أكثر استقرارا وثباتا، وهو ما يجب أن يوضع في الاعتبار -مع أي مشروع تسوية أمريكي مرتقب- على أساس أن استمرار الأزمات العربية ليس في صالح الدول العربية بل على العكس سيظل تحديا حقيقيا يجب التعامل مع تبعاته، وعلى وجه السرعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة