وثيقة "العيش المشترك".. أول مبادرة سورية خالصة لرسم آفاق ما بعد الحرب
"العين الإخبارية" تكشف تفاصيلها وتحاور عضوين بمجلسها
عبر 11 بندا، أعلنت 24 شخصية سورية، "مدونة سلوك لعيش سوري مشترك" لرسم ملامح مرحلة "سوريا ما بعد الحرب".
تبدو الانفجارات وزخات الرصاص في سوريا اليوم شيئا من الماضي، بعدما نجحت الحكومة في دمشق في بسط سيطرتها على غالبية أراضي البلاد، وإعلان التحالف الدولي هزيمة تنظيم داعش الإرهابي، لكن آفاق المستقبل يكتنفها الغموض رغم ذلك.
في مواجهة هذا الغموض بادر شيوخ قبائل سنية وعلوية وشخصيات مسيحية وكردية ومعارضون مستقلون منذ نحو عامين مشاورات توجت بوضع وثيقة للعيش المشترك تحفظ وحدة الأرض السورية وترسم ملامح البلاد ما بعد الحرب.
وقال مشاركون في تلك المبادرة لـ"العين الإخبارية" إنه رغم غياب تمثيل رسمي للحكومة السورية إلا أنها أرسلت إشارات إيجابية عبر وسطاء ترحيبا ببنودها، فيما رحبت بالمدونة فصائل معارضة في الداخل وإن ظلت "هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية" متحفظة بشأن إعلان موقف نهائي منها.
واتخذ مجلس المدونة من العاصمة الألمانية برلين، مقرا رئيسيا لأغلب اجتماعاتهم ومشاوراتهم التي أحيطت بالسرية إلى أن توجت هذه المشاورات بإعلان وثيقة تأسس لمفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعية ووحدة الأراضي السورية من 11 بندا، أعلنت الشخصيات الـ24 المشاركة في المبادرة "مدونة سلوك لعيش سوري مشترك" لرسم ملامح مرحلة "سوريا ما بعد الحرب".
وكشف صحيفة الشرق الأوسط السعودية للمرة الأولى عن بعض بنود الوثيقة في مارس/أذار الماضي لكنها لم تشر لأسماء المشاركين في المبادرة.
"العين الإخبارية" تواصلت مع عضوين بمجلس المدونة، للحديث عن أهداف الوثيقة وطبيعة البنود وآلية تطبيقها مع اقتراب تشكيل اللجنة الدستورية في البلاد التي مزقتها الحرب، وموقف الحكومة السورية ومنصات المعارضة في الخارج منها.
ويقول ملهم بن ناصر الشبلي، عضو مجلس المدونة ومن أبناء قبيلة الفواعرة بسوريا: "الوثيقة تعد نتاج حوار سوري وطني خالص دون أي تدخل دولي، وتستمد الوثيقة ومجلس المدونة القوة من الداخل السوري، ومن كافة الأطياف الاجتماعية المختلفة التي جلست على الطاولة وتناقشت في كافة التفاصيل الحيوية والمصيرية للشعب السوري"، موضحا أن الوثيقة تحتاج إلى تفعيل على نطاق أوسع وتقديم حل واضح إلى الأطراف الدولية المعنية بالشأن السوري.
من جانبه، أوضح عوينان العاصي الجربا، نائب رئيس الكتلة الوطنية السورية، عضو بمجلس المدونة أن تسمية الوثيقة بهذا الاسم، جاءت على غرار مدونة سلوك التي أعلنتها أوروبا بعد حرب الـ 30 عاما في القرن الـ 17، رغبة في إزالة الأزمة الطائفية في سوريا التي تعمقت خلال سنوات الحرب الأهلية، والخروج من دوامة العنف والطائفية التي سقط فيها المجتمع السوري"، مؤكدا على أنه حوار سوري – سوري بدون تدخلات إقليمية أو دولية.
رحلة الوثيقة
بعيدا تماما عن أعين الصحافة والإعلام، ومنذ نحو عامين انطلقت اجتماعات سرية بين شيوخ قبائل عربية سنية معارضة وأبناء عوائل مستقلين وشيوخ دين سنة وشيوخ قبائل علوية وقادة عشائر من دمشق وشرق وشمال وجنوب ووسط سوريا، إضافة لعدد من نواب سابقين وشخصيات لها ثقل بالمجتمع السوري.
واتخذت هذه الجلسات العاصمة الألمانية برلين، مقرا رئيسيا لأغلب اجتماعاتهم ومشاوراتهم، وبمعاونة ناصيف نعيم الخبير السوري بالدستور والمقيم في ألمانيا، وفي مطلع مارس/ آذار الماضي، توجت هذه المشاورات بإعلان وثيقة تأسس لمفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعية ووحدة الأراضي السورية.
ويسرد ملهم الشبلي، عضو بمجلس المدونة، رحلة الوثيقة قائلًا: "طوال السنوات الـ 8 الماضية، شهدنا تطور الأوضاع السياسية والأمنية والمجتمعية، وكيف تحولت الاحتجاجات إلى حرب دائرة بين أبناء المجتمع الواحد، ومن هنا قررنا كمجموعة ممثلة لأطياف الشعب السوري، الاعتماد على أنفسنا والجلوس على طاولة واحدة بحثا عن مخرج من هذه الأزمة".
رغم اختلاف أعضاء مجلس المدونة في انتماءاتهم، تناقش الجميع في قضايا خلافية كبرى مطروحة على الساحة السياسية السورية، خاصة فيما يتعلق بتأثيرات وانعكاسات الوضع السوري على كافة الطوائف، وكيف ساهمت في زيادة حجم الانقسامات والتحزبات السياسية.
وأكدا الجربا والشبلي على أن الجميع اتفق على أن الحوار يكون مكاشفة بالأزمات الحالية، وإقرار بحقائق نعيشها اليوم عقب سنوات الحرب، وتتعلق بمخاوف كل طرف من الآخرين ومن اللحظة الراهنة وتبعاتها في المرحلة المقبلة"، مشيرين إلى أن الشفافية في الحوار والمكاشفة الحقيقة نجحت في إخراج مدونة "سلوك لعيش سوري مشترك" تكون بمثابة مبادئ فوق دستورية وخارطة طريق لحل مستقبلي سوري وطني.
هل الوثيقة ملزمة؟
وتصبح الوثيقة ملزمة للأطراف عندما تتوافر لها عدة عوامل بداية من دعم كتلة سورية حرجة، ورافعة سياسية من قبل المبعوث الدولي الخاص لسوريا جير بيدرسن، وتوافق الأطراف السورية، وهو الأمر الذي يظهر جدية الحوار للخروج من حالة "السكون" الدولية في علاج الأزمة، بحسب رؤية عوينان الجربا.
وأكد الجربا، أن الوثيقة مبادرة مجتمعية حظيت بردود فعل إيجابية على مستوى المجتمع السوري، واعتبر بعض ممثلي النظام السوري الخطوة إيجابية تساعد على الحل، بينما أوضح الشبلي، ترحيب الاتحاد الأوروبي والحكومة الألمانية وبعض فصائل المعارضة بالوثيقة، مؤكدا أن الحكومة التزمت الصمت حيالها رغم إرسالها إشارات إيجابية بشأنها.
ويجد مجلس المدونة، أن الحل الأمثل هو الانفتاح على جميع الدول الساعية لإيجاد مخرج للأزمة السورية، والذي يتم بالتوافق واستمرار المطالبة في المحافل الدولية للإفراج عن المعتقلين السوريين، بحسب ما ذكره الشبلي، الذي أكد على إيمان مجلس المدونة بضرورة العمل من أبعاد اجتماعية داخل وخارج سوريا، شارحا آليات تطبيق الوثيقة عبر إقرارها من جميع الأطراف ودمجها بورقة الحل السياسي للأزمة السورية.
وأضافا الجربا والشبلي، أن قرار الاجتماع الأخير هو مأسسة العمل عبر مجلس للمدونة، ترويجيا للوثيقة داخل المجتمع السوري ولدى الدول المعنية بالصراع السوري، معتمدين على علاقة الموقعين بدوائرهم لترسيخ البنود وتهيئة طوائف المجتمع للتوافق في الحل السياسي، وفي حال مطالبة البعض بتغييرات سيتم التشاور أولا بين مجلس المدونة وإقرارها بشكل علني، حتى تتحول الوثيقة ورقة تدعم العملية السورية.
الهوية السورية
وفي البند الأول للوثيقة، أشار أعضاء مجلس المدونة إلى وحدة الأراضي السورية، الذين أضافوا بنود " 8، 9، 11" لتؤكد على أن سوريا للسوريين، وتقر مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات وإعلاء الهوية السورية فوق أي اختلافات أو خلافات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو مذهبية.
وفسرت الوثيقة تنوع الهوية للمجتمع السوري بالاعتراف بطبيعته القائمة على تنوع ثقافي وقومي وديني ومذهبي وقبلي، مؤكدة على أنه لا يجوز لأي فئة احتكار الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية بسوريا، أو تسيس المجتمع السوري على أساس قومي أو ديني أو مذهبي، منوهة بمبدأ المساواة بين السوريين في الحقوق والحريات في كافة مجالات الحياة، باعتبارها مسألة غير قابلة للمساومة أو النقاش.
وأوضح عوينان الجربا أن الهدف من هذه البنود إعلاء الهوية السورية، بدلا من أن يرفع كل كيان هويته الصغرى في وجه الآخر، مضيفا بقوله "نريد التأسيس لمشروع ديموقراطي بتداول السلطة وإعلاء كلمة القانون والمواطنة، وسنظل وراء هذا الهدف لتحقيقه".
ويجد الجربا، أن بنود الهوية السورية يمكن تطبيقها عبر الإقرار في دستور عصري متوافق عليه، وفتح الأفق السياسي أمام الجميع بما يضمن حماية حقوق التعبير والرأي، علاوة على أن وضع الأجهزة الأمنية تحت المساءلة القانونية يضمن إقامة دولة سورية ديمقراطية.
وفي الوقت نفسه، أكد الشبلي أن مجلس المدونة طوال الاجتماعات تجنب الحديث عن تحديد شكل الدولة السورية المقبلة، تاركين الأمر إلى مهام اللجنة الدستورية المتوقع تشكيلها بشكل يلائم كافة الأطراف السورية خلال الفترة المقبلة.
التوزيع الديموغرافي قبل 2011
وتعد سوريا أكثر دول المنطقة تميزا في التنوع العرقي والديني، وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2008، يبلغ عدد سكان سوريا نحو أكثر من 23 مليون نسمة، وتتصدر حلب ودمشق المرتبتين الأولى والثانية في الكثافة السكانية، وجاءت حمص وحماة واللاذقية ودير الزور والحسكة وارقة وإدلب في المراكز المتتالية من حيث تعداد السكان.
ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة الديموغرافي السنوي لعام 2008، تتمركز في دمشق وحماة وحمص وحلب والرقة ودرعا أغلبية مسلمة سنية، بينما يتواجد المسلمون من الطائفة العلوية بالقرب من مناطق الداخل وقرى الساحل السوري، ويظهر الدروز في محافظة السويداء، وهضبة الجولان المحتلة التي تضم أكثر من 40 ألف درزي.
ويتركز الأكراد بعدد أكثر من مليون شخص في المناطق الشمالية الشرقية بداية من الحسكة والقامشلي وريف حلب وعفرين وكوباني بالقرب من الحدود السورية – التركية، ويتوزع العرب السنة في دير الزور والبوكمال والمدن على الحدود السورية – العراقية.
بينما يتوزع المسيحيون من الكلدان والسريان والأرمن والأشوريين في مدن متفرقة بسوريا، ويتواجد الأرمن بصورة أكبر بريف اللاذقية وحلب والقامشلي، وينتشر تركمان، وأغلبهم من عائلات مسلمة سنة تقدر أعدادهم نحو 3% من إجمالي تعداد سكان سوريا، في حلب ودمشق وحمص واللاذقية، ويصبح تمركز الشركس داخل دمشق.
وتقدر بعض إحصائيات غير رسمية، تعداد المسلمين السنة بنسبة 76.1%، و11.5% نسبة العلويين، ونحو 5.5% شيعة، و3% دروز، بينما أشار تقرير وزارة الخارجية الأمريكية قبل 2011، إلى أن نسبة المسلمين السنة 77%، و10 % نسبة العلويين، و8% مسيحيين، و3% دروز.
حق السوريين ومحاسبة الجميع
لم تغفل الوثيقة التحولات التي طرأت على التركيبة السكانية لسوريا، ومحاولات طمس الهوية السورية بهدم المنازل والتراث السوري وتهجير نحو 7 ملايين سوري إلى 45 دولة (تقديرات وزارة الدفاع الروسية)، وإحلال مليشيات إرهابية في هذه المدن.
وتطرق عضو مجلس المدونة ملهم الشبلي، إلى هدف الوثيقة لإعادة اللاجئين إلى منازلهم، وعودة حقوقهم التي نزعت من قبل أطراف الحرب، سواء تمثل في جنسية أو أرض أو منزل، نظرا لأن هناك رابطا كبيرا بين التهجير القسري وتجنيس آخرين بالجنسية السورية، موضحا أن موقف المجلس اعتبار أن كل من تم تجنسيه بعد 2011 باطل.
وتحت عنوان "جبر الضرر" ذكرت الوثيقة بنود التزام لكافة الأطراف لإعادة السوريين وتعويضهم عن كافة الأضرار التي تعرضوا لها، مع التأكيد على حقوق أسر الضحايا والجرحى والمعتقلين منذ 2011، ومبدأ المحاسبة ضد مرتكبين أي انتهاكات، بعيدا عن الثأر والتهميش والإقصاء، أو تحميل فرد مسؤولية أخطاء الجماعة.
ومع انتظار طرح مجلس المدونة، وثيقة "العيش المشترك" على أطراف الصراع، يبقى السؤال قائما هل تصبح الوثيقة طوق نجاة للدستور السوري؟