اعتمدت تركيا سياسة تقوم على التهرب من أي اتفاق في مجال المياه بغية استكمال مشاريعها المائية الضخمة دون التشاور مع بغداد ودمشق
لا تختلف السياسة المائية لتركيا عن سياستها العسكرية في سوريا والعراق وليبيا، لتحقيق أحلام أردوغان، فها هو أردوغان يشهر سلاح المياه لتجويع السوريين والعراقيين المتواجدين على ضفتي نهري دجلة والفرات، نهران تغنى بهما المتنبي والجواهري والرصافي وغيرهم من الشعراء الذين وجدوا في مياه النهرين رمزا للحياة والديمومة.
تقوم السياسة المائية التركية على معادلة خطرة، مفادها أن لتركيا وحدها حق التصرف بمياه دجلة والفرات، وأن لها وحدها حق التصرف بهما دون أي اعتبار لحقوق سوريا والعراق، رغم اتفاق عام 1987 الذي نظم حصة كل دولة من الدول الثلاث بكميات مياه النهرين.
إذ اعتمدت تركيا منذ البداية سياسة تقوم على التهرب من أي اتفاق في مجال المياه، واستغلال عامل الوقت، بغية استكمال مشاريعها المائية الضخمة دون التشاور مع بغداد ودمشق، وعليه أقامت خلال السنوات والعقود الماضية مئات السدود على حوضي مياه النهرين حتى تحول المياه إلى سلعة تتحكم بها، وهي سياسة تعود في الأساس إلى الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل الذي لقب بمهندس السدود، وهو الذي قال خلال تدشين سد أتاتورك عام 1992 "إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك تركيا وحدها، والنفط هو ملك الدول التي تنبع منها، ونحن لا نقول لهم أننا نريد مشاركتهم في نفطهم، كما أننا لا نريد أن يشاركوننا في مياهنا".
هذه السياسة وضعها أردوغان قيد التنفيذ، إذ بدأت تركيا بقطع مياه نهري دجلة والفرات لملء سدودها، وهو ما تسبب بتداعيات مباشرة، تمثلت في عدم توفر مياه الشرب للسكان على ضفتي الفرات في سوريا، وتخفيض توليد الطاقة الكهربائية، وتهديد الإنتاج الزراعي والصناعي، وزحف الجفاف والتصحر، ونفوق الثروة الحيوانية.
تقوم السياسة المائية التركية على معادلة خطرة، مفادها أن لتركيا وحدها حق التصرف بمياه دجلة والفرات.
وكل ما سبق بات يبعث الموت ويهدد الأهالي بالهجرة والنزوح من موطنهم الأصلي، وخطر السدود التركية لا يهدد هؤلاء السكان فقط، بل كل سوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي، إذا ما علمنا أن هذه السدود اقيمت في منطقة معروفة بالنشاط الزالزلي، وأي إنهيار لهذه السدود، كفيل بجرف قرى ومدن بأكملها في هذه الدول. مقابل تهرب تركيا من أي اتفاق حقيقي مع سوريا والعراق منذ المفاوضات التي بدأت بينهما عام 1962.
يجب الاعتراف بأنه لم تكن هناك استراتيجية واضحة وقوية من قبل بغداد ودمشق، وهو الذي مكن تركيا من فرض سياسة الأمر الواقع، وتحويل المياه إلى قضية سياسية بامتياز، فمن جهة رهنت تركيا أي مفاوضات مع العاصمتين بشأن المياه بمحاربة الأكراد ولاسيما حزب العمال الكردستاني.
ومن جهة ثانية بإدخال إسرائيل إلى معادلة المياه، إذ أن خبرة المياه في مشروع المياه التركي المعروف بـ "غاب" هي خبرة إسرائيلية، ومعروف دور كل من المهندسين الإسرائيليين يوشع كالي وشارون لوزوروف في بناء هذه السدود وتقديم الخبرة الإسرائيلية في مجال الهندسة الوراثية، وشراء الأراضي على ضفتي النهر، وطرح مشروع مناوغات لإيصال مياه الشرب إلى المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، فضلا عن عامل التمويل.
وكلها عوامل ساهمت في بناء مئات السدود على الحدود السورية والعراقية من الجهة التركية دون أي اعتبار حتى للمدن والمناطق الأثرية، إذ أن سد إيليسو دمر مدينة هسن كيف التاريخية، وهجر سكان أهالي 40 بلدة وقرية في منطقة يعود تاريخها إلى 12 ألف سنة، وشكلت مع مرور الزمن درة التاريخ الكردي، وهذه سياسة مدروسة يهدف منها أردوغان محو كل أثر يؤكد الحقيقة التاريخية الأكراد في تركيا.
قال كثيرون إن القرن الـ٢١ سيكون قرن حروب المياه، كما كان القرن الـ٢٠ قرن حرب الطاقة، واليوم مع قطع تركيا مياه نهري دجلة والفرات بدأت هي هذه الحرب مستفيدة من ضعف الموقفين العراقي والسوري، وهو ما يطرح السؤال عن استراتيجية البلدين في المرحلة المقبلة، والسؤال هنا، لماذا لا يتم اللجوء إلى المحافل الدولية ولاسيما مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة لتدويل قضية مياه النهرين ؟
لماذا لا نجد حركة ضاغطة تجاه الدول والمؤسسات الممولة للسدود التركية ؟ لماذا لا يتم استغلال الأوراق المتاحة في وجه السياسة المائية التركية ؟ لماذا لا نجد تنسيقا بين البلدين يرتقي إلى مستوى تحدي الخطر الذي يهددهما ؟ أسئلة لا يمكن الإجابة عنها في ظل الظروف الصعبة للبلدين، لكن القضية قضية حياة وموت، قضية وجود وديمومة، فلا حياة من دون مياه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة