إن التغيير في اللغة والتعامل الأمريكي وطرح خيار إخراج تركيا من "حلف الناتو" يعكس تراجعا قويا للأهمية الاستراتيجية التركية.
في ظل الإصرار التركي على المضي قدماً في صفقة منظومة الصواريخ الروسية S400 تأتي الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة بعدم قبول المزيد من الطيارين الأتراك للتدريب على مقاتلات "إف-35"، لا تعكس فقط إصرارا أمريكيا في الذهاب نحو التصعيد مع تركيا، وإنما تعكس مؤشرا على الجدية الأمريكية في الخيارات التي طرحتها في السابق أمام الأتراك، وهي إما البقاء ضمن حلف الناتو، وإما الاستمرار في الذهاب قدماً نحو الحصول على منظومة الصواريخ الروسية.
إن التغيير في اللغة والتعامل الأمريكي وطرح خيار إخراج تركيا من "حلف الناتو" يعكس تراجعا قويا للأهمية الاستراتيجية التركية في السياسة الأمريكية، وبالتالي أصبحت أنقره تواجه خطر الخروج من "حلف الناتو" وهو خطوة ليست في صالح أنقرة
لجوء تركيا إلى الحصول على منظومة الصواريخ الروسية S400 في العقلية التركية هو خطوة ضغط سياسية بالدرجة الأولى، ويمكن النظر لها بأنها تعد آخر أوراق أردوغان التي يأمل منها أن تحدث انفراجه في الطريق المسدود لأنقره للانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر خلق ضغط أمريكي على الدول الأوروبية لإعادة فتح ملف مفاوضات الانضمام التركي للعضوية الأوروبية، وبالتالي يأمل أردوغان عبر الذهاب إلى صفقة منظومة الصواريخ الروسية S400 أن تفضي إلى إعادة تجارب الضغط الأمريكية القديمة بخصوص ملف الانضمام التركي لعضوية الاتحاد الأوروبي إلى الواجهة، وذلك عندما لعبت الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطا على أوروبا لصالح قبول تركيا بالوحدة الجمركية العام 1959، ومارست أمريكا ضغطا على الدول الأوروبية في العام 1999 لقبول طلب تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي ومنحها وضع المرشح.
ومن هنا نجد أن أردوغان يتعامل مع منظومة الصواريخ الروسية S400 بعقلية ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما كانت تحظى تركيا بأهمية استراتيجية، وكانت تنظر لها الولايات المتحدة بأنها أحد المفاتيح الاستراتيجية في المنطقة الممتدة من أوروبا وحتى القوقاز والبلقان والشرق الأوسط. كما ينظر أردوغان إلى الأمر أيضاً بعقلية الحرب الباردة وفي خضم المواجهة مع التهديد السوفيتي التي رفعت من مستوى التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وبخاصة في البعد العسكري بعد انضمام تركيا إلى حلف الناتو. لذلك لم يدرك أردوغان المتغيرات التي أدت إلى تراجع أهمية تركيا وموقعها الاستراتيجي، وأدت إلى إحداث تغيير في التنافس الدولي، فلم يعد الخطر السوفيتي موجوداً، ولم تعد مسألة التنافس الأمريكي – الروسي على أشدها في ظل بروز قوى دولية منافسة للولايات المتحدة وهي القوة الصينية الصاعدة، ولم تعد منطقة الشرق الأوسط منطقة التنافس الدولي، بل أصبحت منطقة شرق آسيا هي المستقبل، وهي ساحة التنافس، وهو ما أحداث تغييراً في السياسة الأمريكية التي تبنت العام 2009 استراتيجية الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والاستدارة نحو شرق آسيا.
وبالتالي فإن التغيير في اللغة والتعامل الأمريكي وطرح خيار إخراج تركيا من "حلف الناتو" يعكس تراجعا قويا للأهمية الاستراتيجية التركية في السياسة الأمريكية، وبالتالي أصبحت أنقره تواجه خطر الخروج من "حلف الناتو"، وهو خطوة ليست في صالح أنقرة التي ترى أن بقاءها في الناتو يساهم في إنعاش آمالها بالانضمام للاتحاد الأوروبي. كما أنها تدرك أن من مصلحتها عدم الاستمرار في التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل ما تواجهه من أزمات اقتصادية متصاعدة، واقتصاد هش سرعان ما يتأثر بلغة التهديد في التصريحات الأمريكية، فالعامل الاقتصادي يلعب دورا في غاية الأهمية في لغة الضغط الأمريكية تجاه تركيا. ولو عدنا إلى الخلف نجد أن العامل الاقتصادي لعب دورا في الرضوخ التركي للمطالب الأمريكية بالإفراج عن القس الأمريكي بعد انهيار الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي عقب العقوبات الأمريكية على تركيا، وبالتالي فإن التصعيد الأمريكي تجاه أنقرة سيلقي بظلاله على الوضع الاقتصادي التركي، وهو ما سوف يدفع أنقرة للرضوخ والتراجع عن المنظومة الروسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة