تركيا تبني السدود لتجويع العراق وسوريا، ودعمت تنظيم «القاعدة» واستفادت مليارات من تصدير النفط من مناطق كان يسيطر عليها «داعش».
بعض تصرفات القادة السياسيين تدعو للتساؤل والتثبت قبل التعليق عليها، وقد انتشر مقطع مصور يتحدث فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قصة حدثت له في طائرة، وأنه حدث معه مثل ما حدث مع الرسول الكريم وصاحبه أبي بكر في الغار، حيث أعمى الله عيون خصوم أردوغان عن رؤيته داخل الطائرة فتركوه وذهبوا.
ربما نسيتْ النخبة الحاكمة في تركيا أن كل الدول العربية وشعوبها تريد علاقاتٍ صحية مع دولة حديثة وجارة، ولكنها ترفض رفضاً تاماً أي استحضارٍ لتاريخٍ استعماري مشينٍ، طردته شرّ طردة من بلادها،
هذا مضمون المقطع المترجم للغة العربية، ولست أحسن اللغة التركية، ولكن المقطع يليق بهذا التفكير، وقد سبق لكاتب هذه السطور التشكيك في صور سابقة عند افتتاحه للقصر الرئاسي في أنقرة، الذي حشد فيه جنوداً بملابس من مراحل مختلفة عثمانية وتركية، غير أن مقطع فيديو واضحاً أثبت أن تلك الصور كانت حقيقية وليست مفبركة.
تحدث وزير داخلية تركيا عن حلب وغيرها من المدن العربية بوصفها تحت الحكم التركي، وصولاً إلى الحرمين الشريفين، وهو نفس الوزير المتهوّر الذي حذّر زوَّار تركيا بأنهم سيُعتقلون في المطارات إن قَدِموا إلى تركيا ولهم مواقف معارضة لحكم أردوغان، ما أدى إلى تحذير عددٍ من الدول ومنها ألمانيا لرعاياها من زيارة تركيا، وهو نهج مستمرٌّ للسياسة التركية.
حلم أردوغان هو أن يعود لحكم العالم العربي، وقدّم نفسه طويلاً كخليفة عثماني جديدٍ، وظنّ أنه قادرٌ على إعادة الاستعمار التركي للدول العربية، بعدما طردت الشعوبُ العربية الأتراك المحتلين شر طردة، وبعدما ترسخت الدولة الوطنية، وظن أنه بامتطائه لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية قادرٌ على تحقيق وهمه الكبير غير المبرر، خصوصاً بعدما أصبح لـ«الإخوان» دولة في الخليج العربي تدعم كل جماعات الإسلام السياسي، وكل جماعات العنف الديني وهي قطر.
الغرور مَهْلَكَة، وقد دفع تركيا إلى رفض الاعتراف بمذابح الأرمن التي يعرفها العالم بأسره إلا تركيا ونخبتها الحاكمة، هذه النخبة التي أعماها حلم استعادة الخلافة العثمانية إلى الغفلة عن إرث مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، الذي أنقذ تركيا بنقضه لإمبراطورية بني عثمان من أساسها وتدمير إرثها الإمبراطوري، لتأتي هذه النخبة الحاكمة بكل ما ينسف مبادئ وأفكار أتاتورك المؤسس، مع التستر خلف وضع أكاليل الزهور على قبره في كل مناسبة.
تمالئ النخبة الحاكمة في تركيا جماعة الإخوان الإرهابية وتدعمها وتوفر لها الملجأ، لإدارة حروبٍ أهلية وإرهابية طاحنة في مصر وليبيا وسوريا وغيرها، بينما كان زعيمها يقدم النصائح إبان الربيع الأصولي لقيادات الإخوان في مصر وتونس بتبني العلمانية خوفاً من انتفاض الشعب التركي ضده، وقد اكتشف العالم، وخاصة الشعوب العربية أنه يرفع عقيرته دائماً بالشعارات الجوفاء تجاه القدس وفلسطين، وهو الذي يبني أقوى العلاقات السياسية والاقتصادية، بل والعسكرية مع دولة إسرائيل، ويزايد على الدول العربية في قضيتهم الأساس.
إن ناقض عهده مع القريب لا يجديه استحضار القديم، وربما ظنّ أن دفاعه عن العثماني «فخر الدين» الذي ارتكب جرائم في حق الإنسانية تجاه أهل المدينة النبوية سيُنسي الأتراك انقلابه على معلِّمه وداعمه الأكبر الداعية المعروف فتح الله غولن، وانقلابه قبله على نجم الدين أربكان، وانقلابه على كل حلفائه.
تعاند النخبة الحاكمة في تركيا حين تصرّ على صفقة صواريخ «إس 400» مع روسيا وتثير الشعارات والخطابات في وجه الولايات المتحدة، ويعلم العالم أجمع أنها شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، فالعهد ليس بعيداً، والأحداث لم تزل حاضرة، فحين أسقط طيارٌ تركي قاذفة روسية سارعت النخبة التركية الحاكمة بالخضوع والاعتذار المذلّ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فانتصر الواقع وتبخرت الشعارات، وفي قضية القس الأمريكي خضعت النخبة التركية الحاكمة، وخرج القس، واحترقت الخطب الرنانة وتلاشى الحديث عن السيادة التركية.
تركيا تبني السدود لتجويع العراق وسوريا، ودعمت تنظيم النصرة في شمال سوريا وهو تنظيم «القاعدة» فرع سوريا، واستفادت مليارات من خلال تصدير النفط من المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، والعمليات الإرهابية في مصر يقبع قادتها في تركيا، حيث يخططون ويدعمون عناصر جماعة الإخوان الإرهابية لتنفيذ إرهابهم في مصر.
تركيا تهرِّب الأسلحة بأنواعها لقيادات التنظيمات الإرهابية في ليبيا، وهو ما يكشف عنه الإعلام الليبي تباعاً، ما يشكِّل منهجاً ثابتاً في السياسة التركية ضد الدول العربية وشعوبها.
وفي هذا السياق التركي المعادي للدول العربية تمكن قراءة تصريحات أردوغان المعادية للسعودية ودول الخليج، فهي تتسق بشكل كامل مع توجهات النخبة التركية الحاكمة، والمحاولات المستميتة لاستفزاز السعودية، ودفعها إلى قطع العلاقات مع تركيا لإنقاذ النخبة الحاكمة هناك بافتعال أزمة خارجية تغطي بها على الأزمات الداخلية، وهو منهج معروفٌ في المنطقة، وخير من يمثله النظام الإيراني في سياساته خلال العقود الأربعة الماضية.
تركيا تمارس عنصرية سياسية وعرقية تجاه الأكراد من مواطنيها في جنوبها وشرقها، بل وفي برلمانها ومؤسساتها السياسية، وهي تهدد أكراد سوريا بالتدخل العسكري لولا خوفها من أمريكا والقوات الأمريكية هناك، وهي تنتهك سيادة العراق في ملاحقة الأكراد العراقيين وتهديدهم وضرب بعض المواقع في كردستان العراق.
تركيا الضائعة في هويتها بين تركيا الدولة العلمانية الحديثة وتركيا الإمبراطورية العثمانية، هي تركيا العضو في «حلف الناتو» التي تسعى للتسلح من روسيا، وتركيا الحليفة لأمريكا هي تركيا التي تتقرّب من النظام الإيراني، وتركيا التي تنشر الدمار في الدول العربية هي تركيا التي تستنزف خزينة الدولة القطرية لمصالحها الخاصة، تناقضات دينية وثقافية وسياسية واقتصادية تؤشر على التفتيش عن النجاة، أكثر مما تعبّر عن استراتيجيات للفعالية والتأثير.
«بيت العنكبوت» الواهي ليس خيالاً مَرضياً يراد به حشد الجموع والتأثير على الجماهير المسكونة بالخرافة والوهم، وأن الزعيم السياسي يشبه النبي الكريم في أفعاله، ولكنه كامن في السياسات المتناقضة والمواقف المتضادة والحرص الشديد على تصدير الأزمات الداخلية للخارج هرباً من الاستحقاقات الداخلية المؤلمة.
ربما نسيتْ النخبة الحاكمة في تركيا أن كل الدول العربية وشعوبها تريد علاقاتٍ صحية مع دولة حديثة وجارة، ولكنها ترفض رفضاً تاماً أي استحضارٍ لتاريخٍ استعماري مشينٍ، طردته شرّ طردة من بلادها، وإن تمّ تغليفه بمسمياتٍ تاريخية كالخلافة وغيرها.
أخيراً، ففي مثل هذه الحال الغريبة ليس أصدق من المثل العربي -مع التعديل- عش عجباً ترَ «رجباً».
نقلاً عن «الشرق الأوسط»
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة