هل يعثر "غاندي" تركيا على ضالته: "العدالة"؟
من المبكر معرفة إذا ما كان كمال كيليشدار أوغلو الملقب بـ"غاندي تركيا" الذي قرر أن يبحث عن "العدالة" على الطريق الدولي الرابط بين أنقرة وإسطنبول سيصل إلى ما يريد، لكن المؤكد أنه كلما استمر في مسيرته اليومية كسب المزيد من الدعم والتأييد الشعبي والسياسي.
من المبكر معرفة إذا ما كان زعيم المعارضة التركية كمال كيليشدار أوغلو الملقب بـ"غاندي تركيا" الذي قرر أن يبحث عن "العدالة" على الطريق الدولي الرابط بين أنقرة وإسطنبول سيصل إلى ما يريد، لكن المؤكد أنه كلما استمر في مسيرته اليومية هذه؛ كسب المزيد من الدعم والتأييد الشعبي والسياسي ونجح في إغضاب الحكومة وحزب العدالة والتنمية وقياداته التي تستعد لإطلاق مسيرات شعبية جديدة مع اقتراب مرور العام الأول على حادثة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.
كيليشدار أوغلو الذي بدأ قبل أيام مسيرته الطويلة سيرًا على الأقدام انطلاقا من العاصمة التركية أنقرة باتجاه العاصمة الثانية إسطنبول رافعا لافتة "العدالة" التي يبحث عنها ويريدها للجميع في تركيا وليس لأحد نواب حزبه الذي حوكم وسجن بتهمة التجسس لمدة 25 عاما كما يقول هو، يدرك جيدا ليس فقط مشقة قطع 450 كلم وهو يقترب من عتبة السبعين من عمره، بل خطورة المغامرة الأولى من نوعها في التاريخ السياسي التركي وربما في العالم أن تدفع خيبة الأمل وانسداد الأفق بزعيم حزبي وسياسي للتعبير عن غضبه ورفضه لما يجري في بلاده عبر التمرد والعصيان الاجتماعي على هذا النحو على طريقة الزعيم الهندي مهاتما غاندي إبان حروب الاستقلال مع المستعمر الإنجليزي.
وسخر رئيس الوزراء التركي أولا من تحرك كيليشدار أوغلو، ودعاه للاستفادة في شهر رمضان المبارك، وفي ظل حرارة الشمس المرتفعة، من القطارات السريعة التي أمنتها حكومة العدالة والتنمية في الأعوام الأخيرة بين المدينتين. لكنه عاد فورا إلى جديته وقال إن البحث عن العدالة لا يكون في الشوارع؛ فتركيا دولة قانون، ومراحل المحاكمة لم تكتمل بعد، فهناك الاستئناف والتمييز.
الحكاية باختصار هي عبارة عن قرار قضائي صدر بسجن أنيس بربر أوغلو النائب عن حزب الشعب الجمهوري والإعلامي السابق المعارض لمدة 25 عاما على خلفية تورطه في تسهيل تسريب ونشر معلومات سرية تتعلق بمشاهد وصور شاحنات قيل إنها تابعة لجهاز الاستخبارات التركي وكانت تنقل أسلحة إلى الداخل السوري كما ذكرت العديد من التقارير الإعلامية التي رفضتها الحكومة يومها، مؤكدة أن الشاحنات كانت تنقل مساعدات إلى تركمان سوريا.
ليست مسألة سهلة إطلاقا أن يقرر زعيم معارضة في دولة تريد الالتحاق بالمعايير الأوروبية في العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان أن يقطع مسافة مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام للتعبير عن رفضه واستنكاره لسياسات حكومة بلاده ومطالبته بالعدالة وإلغاء قانون الطوارئ المعلن والتدقيق السريع في ملفات عشرات الآلاف من الموقوفين والمطرودين من أعمالهم بتهم الوقوف إلى جانب جماعة فتح الله جولن والكيان الموازي في المحاولة الانقلابية الأخيرة.
لكن خطوة كيليشدار أوغلو إذا ما اكتملت حتى النهاية ستفجّر حتما نقاشات سياسية وحزبية وحالة جديدة من الاصطفافات الداخلية بدأت معالمها تظهر من الآن تقود تركيا نحو صفحة جديدة باتجاه التهدئة أو التصعيد. وهذا ما يؤكده أيضا السجال القانوني والإعلامي الذي يتفاعل حول قرارات السلطات السياسية والقضائية منذ تاريخ 20 يوليو/تموز 2016 تاريخ إعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد 5 أيام فقط على المحاولة الانقلابية الفاشلة وحتى اليوم.
قرار سجن بربر أوغلو تحوّل على ما يبدو إلى فرصة للمعارضة التركية لتحريك ملفات أمنية وسياسية وقضائية كثيرة عالقة بعد عام على المحاولة الانقلابية، لكنه سيثير معه حتما قضايا الحريات والاعتقالات والطرد والتصفيات التي طالت أكثر من 150 ألفا بعد محاولة الانقلاب في الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي.
كيليشدار أوغلو يصف قرار المحكمة بأنه غير قانوني وله دوافع سياسية، لكنه يقول إنه يتحرك في "مسيرة العدالة" التي بدأها للمطالبة بإنصاف العشرات من الإعلاميين والبرلمانيين والمواطنين، والعيش في بلاد توجد فيها العدالة. "هذه المسيرة لا علاقة لها بحزب سياسي، وإنما هي مسيرة مباركة تطالب بالديمقراطية، وينبغي على جميع المطالبين بالعدالة أن يدعموها".
أساتذة وخبراء القانون في تركيا انقسموا بين مؤيد ومعارض لقرار المحكمة، لكن الكلمة المقبلة ستكون لمحكمة الاستئناف ثم التمييز حيث القناعة أن القضاء نفسه سيتدخل لتغيير قرار قضائي. لكن أصوات في المعارضة تقول إنها غير متفائلة وهي مصرة على التصعيد ومتابعة ملف القضية الذي سيكون مدخلا لتحول حقيقي في المسار الديمقراطي والسياسي في البلاد. "قرار اعتقال بربر أوغلو يهدف إلى ترويع المعارضة ويدل على سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية" كما تقول أصوات في المعارضة أيضا.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفع شخصيا قضية ضد صحفية " جمهورييت " اليسارية المعارضة في حزيران/يونيو 2015، لنشرها صورا للشاحنات وكشف معلومات سرية تعني الأمن القومي التركي مباشرة. لكن الأصوات المعارضة يتزايد عددها يوما بعد آخر ومشكلة العدالة والتنمية أن هذه الاصوات ليست في صفوف المعارضة وحدها بل في صفوف أطراف كانت محايدة حتى الأمس أو داخل العدالة والتنمية نفسه.
نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري إنغين ألطاي يقول "إن الحكم يهدف إلى ترويع المعارضة".
المعارضة تقول أيضاً محكمة تركية تحكم على المتهمين الأولين بنشر المشاهد جان دوندار وارديم غل بالسجن لأكثر من 5 أعوام بحجة "كشفهما أسرار دولة"، في نفس الملف لكن نائب الشعب الجمهوري المتهم بنقل الصور يحاكم بـ25 عاما. اليس هناك تناقضا في القرار؟
كيليتشدار أوغلو يقول: "إذا كان هناك من ثمن يتعين دفعه سأكون أول من يدفعه"، "سأسير وسأسير وصولا إلى إسطنبول. وسنواصل هذه المسيرة حتى يكون هناك عدالة في تركيا". لكن حزب الشعوب الديمقراطية المحسوب على الأكراد في تركيا، والذي أعلن عن مساندته لتحرك كيليشدار اوغلو يذكره أنه لم يقف هو إلى جانبه بسبب اعتقال وسجن 12 نائبا في الحزب حتى الآن بينهم صلاح الدين دميرتاش وشريكته في رئاسة الحزب فيغان يوكسكداغ في إطار ملف اتهامات تتعلق بمكافحة الإرهاب وارتباطات هذه القيادات بحزب العمال الكردستاني.
أوروبا تتابع عن قرب أيضا. المفوض الأوروبي يوهانس هان يقول: "تؤدي هذه التطورات إلى القلق بعد رفع حصانة أكثر من 130 نائبا انتخبوا ديموقراطيا في أيار (مايو) 2016".
بولنت ارينش أحد أبرز قيادات العدالة والتنمية و"المشاغب" الدائم يدعو لمراجعة الحكم لأن ما يقال حول سرية المعلومات لم يعد قائما وكثير من التفاصيل حول القضية سبق ونشرت وتم معرفتها من قبل الرأي العام التركي. لا بد من قرار جديد يرضي الرأي العام التركي والقضاء التركي قادر على أن يفعل ذلك. هو موقف من داخل الحزب الحاكم ولأحد أبرز حقوقييه يتعارض مع ما تقوله القيادات الحكومية والسياسية الأخرى ومؤشر آخر على أن الأزمة لن تظل محصورة بين الحكم والمعارضة بل ستنتقل إلى داخل الحزب الحاكم نفسه في المرحلة المقبلة.
الحكم يدعو لاحترام القضاء والإساءة إليه لكن أصوات معارضة تذكر قيادات العدالة والتنمية نفسها أنها هي التي كانت تنتقد سلوك وقرارات وتصرفات القضاء قبل أشهر فقط.
البرلماني التركي والإعلامي السابق بربر أوغلو يقول إنه إذا كان قرار سجنه سيساهم في إخراج تركيا من أزماتها فلا قيمة لما يعاني منه، لكن غاندي تركيا الجديد يقول: السكين وصلت إلى الوريد ولم نعد نستطيع التحمل. هل تتدخل السلطات في إلغاء المسيرة إذا ما شعرت أنها ستتحول إلى "غزي بارك جديد" على الطريق السريع بين أنقرة وإسطنبول أم ستحاول امتصاص هذه الغضبة وسط كثير من الأزمات الداخلية والخارجية التي لا تريد أن تضاف إليها واحدة جديدة هذه المرة؟