مفهوم رجل الدولة من المفاهيم الراسخة في علم السياسة، حينما يستخدم يرتسم في الذهن صورة معينة تحددها الثقافة والهوية والتاريخ.
كان أفلاطون أول من ميز بين رجل الدولة والسفسطائي، وكان جوهر التمييز بينهما هو أن رجل الدولة يتصف بالحكمة والشجاعة والنزاهة الشخصية والتعلق بالأهداف العليا للدولة، والعمل على تحقيقها، والسهر على مصالح المواطنين، والحفاظ على دولته، والحرص على رفعتها، وعلو شأنها، أما السفسطائي فغايته الانتصار لحجته والتلاعب باللغة لخداع الجماهير لتحقيق مصالح خاصة.
تميم وأردوغان رغم فارق السن إلا أن أيا منهما لا يعتبر من رجال دولة، أحدهما من غلمانها، والآخر سفسطائي من مجاذيب الدولة المهووسين بالعظمة الشخصية، لم يستطع أي منهما أن يعبر عن مصالح دولته الحقيقية بعيدا عن مصالحه الخاصة
ومنذ ذلك الحين ومفهوم رجل الدولة من المفاهيم الراسخة في علم السياسة، حينما يستخدم يرتسم في الذهن صورة معينة، تحددها الثقافة والهوية، والتاريخ، فعندما يسمع الإنجليزي مفهوم Statesman تظهر على شاشة تفكيره صورة تشرشل، والأمريكي تتوالى أمامه صور جورج واشنطن، وإبراهام لنكلن، وجون كينيدي، والعربي يمر أمام عينيه عبدالناصر، والشيخ زايد والملك فيصل، والحبيب بورقيبة، وأحمد بن بيلا ..إلخ.
رجل الدولة في التقاليد العربية الإسلامية هو صانع الدولة ذاتها، لأن الدولة في تاريخنا كانت تنسب إلى رجال ينجبون رجالاً، فالدولة عندنا لا توجد أو تستمر دون رجال ربما يعود ذلك إلى ضعف الفكر المؤسسي، والتقاليد المؤسسية في الثقافة العربية الإسلامية، والتعلق الدائم بالأشخاص، لذلك كان دور رجل الدولة محوريا في تأسيس الدولة واستمرارها.
وفي عصرنا هذا أصبحت الأمم أكثر قدرة على تمييز رجال الدولة عن غيرهم، وصارت قدرات الأفراد العاديين حاذقة في معرفة من هو رجل من ذلك الانتهازي الممثل الفاشل أو الممثل الناجح، ولكنه في كلتا الحالتين ممثل، ومع التغيرات التي حدثت في العالم العربي فيما بعد الربيع العربي المشؤوم، في هذه المرحلة ظهر نمط جديد من المسؤولين والحكام هم في الحقيقة غلمان الدولة وليسوا رجالها.
غلمان الدولة هم أشخاص لم يصلوا إلى مرحلة البراعة المنطقية واللغوية فيكونون مثل السفسطائيين كما كان الحال أيام أفلاطون، بل هم انتهازيون يلتصقون بالدولة، ومؤسساتها لتحقيق الفوائد الشخصية، والمكانة الاجتماعية دون إمكانيات حقيقية تؤهلهم لشغل تلك الأماكن أو لنيل تلك المكانة.
غلمان الدولة أصبحوا مشكلة في العالم العربي، حيث إن مصالح الأمة صارت لعبة بين هؤلاء الغلمان، ومن الصعب إقناع الغلام منهم أن يترك اللعبة مهما حذرته أنها ستقع، وتتحطم، وتجرح يديه، ورجل أمه، أو تطير فتخلع عين أبيه، صعب على الغلام أن يدرك المخاطر المستقبلية لأن عقله لا يستطيع استيعاب المجردات، هو بالكاد يستطيع إدراك الحقائق الواقعية الصلبة التي تتعرف عليها حواسه المباشرة.
غلمان الدولة يعبثون بمستقبل شعوب عربية كاملة، سيد الغلمان الحوثي عبث باليمن، ودمر كل مقدراتها وأعادها الى الوراء قروناً، وغلمان الدولة في العراق ما زالوا مرتهنين لسيدهم وولي أمرهم، والوصي عليهم حين كانوا أيتاماً في حواري طهران وقم، وغلمان الدولة في ليبيا باعوها لسلطان الحالمين مجذوب الدولة أردوغان، فغلمان الدولة صاروا ظاهرة في العالم العربي.
وبالأمس أميرهم ومدللهم كان في الأمم المتحدة يلقي كلمة الصباح في طابور المدرسة، يقرأ كلمة أعدها له مدرس النشاط عزمي بشارة، لا تعرف عن أي دولة يتكلم ولا أي دولة يمثل، يتدخل فيما لا علاقة له به، ويعطي توجيهات للعالم، وهو الذي من المستحيل دون عدسات مكبرة أن يراه العالم، وقبله كان السفسطائي الزاعق، الصارخ، الغاضب، يعطي توجيهات للأمم المتحدة من موقع القوة العظمى، ثم يشتكي للأمم المتحدة من أستاذه فتح الله كولن؛ لأن عنده مدارس في دول كثيرة تمثل له تهديداً في تركيا، فيطلب من العالم أن يخلصه من أستاذه، وهو الذي كان يأمر العالم بلهجة صارمة قبلها بدقيقة.
تميم وأردوغان رغم فارق السن إلا أن أيا منهما لا يعتبر من رجال دولة، أحدهما من غلمانها والآخر سفسطائي من مجاذيب الدولة المهووسين بالعظمة الشخصية، لم يستطع أي منهما أن يعبر عن مصالح دولته الحقيقية، بعيدا عن مصالحه الخاصة، ولم يستخدم أي منهما لغة رجل الدولة، فأحدهما طالب يلقي كلمة صباح في مدرسة، والثاني ناشط سياسي يلقي خطبة في ركن الكلام في حديقة هايد بارك في لندن، حيث كل إنسان له حق الكلام في أي كلام.
وبالمقارنة تتضح الحقائق، فرئيسا فرنسا ومصر كلاهما قدم صورة لرجل الدولة الذي تقف خلفه مؤسسات عريقة معجونة في السياسة، متمكنة منها، والذي يعرف دوره أنه ممثل لدولة، وليس لذاته أو عظمته الشخصية، يعبر عن مصالحها وأهدافها وطموحاتها، ولا يخرج في كلامه عن قدراتها والتزاماتها، لأنه هنا هو رجل دولة، ويعرف كيف يكون رجل الدولة، بغض النظر عن شخصه وعن موقف الناس منه، حتى عن موقف مواطني دولته منه قبولا أو رفضا، هو في هذا الموقف رئيس دولة وليس ناشطا سياسيا، ولا تلميذا في مدرسة يلقي كلمة الصباح.
في عالمنا العربي نحتاج دائما إلى اليقظة، للتميز بين رجال الدولة، ومن هم حمل ثقيل على الدولة، فالدول تبنيها الرجال، وتقودها الرجال، وترفع شأنها الرجال، أما أولئك الصغار فسيمر عليهم التاريخ مرور الكرام، قد لا يذكرهم ترفعاً عن تسويد الصحائف وتصخيمها بأحبار الغلمان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة