تركيا.. العقبة الكؤود في الاتفاق الليبي
خبير ألماني يقول عن الاتفاق إنه "مجرد تصريحات، بها الكثير من التحفظات والشروط والتفكير بالتمني"،
رحب العالم أجمع بالإعلان الليبي الأخير الخاص بوقف إطلاق النار، وهو أمر محمود في كل الأحوال، فما من عاقل يفضل الحرب والخراب، على السلام والنماء والاستقرار.
غير أنه وبعد أقل من 48 ساعة على الإعلان، والذي جاء في خطوط عريضة، ومن غير تفاصيل شارحة وموضحة كيفية التوصل إلى الهدف المنشود، بدأت الشكوك تنتاب البعض لجهة المقدرة الحقيقية على ترجمة الإعلان إلى واقع حقيقي، الأمر الذي توقفت معه صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية بنوع خاص، في اليوم التالي للإعلان.
أحد أفضل المراقبين للشأن الليبي "ولفرام راتش"، الخبير في شؤون ليبيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، يصرح بالقول: "لست متأكدا من أنني سأسمِّي هذا تقدما سياسيا، في الوقت الحالي، إنها مجرد تصريحات، بها الكثير من التحفظات والشروط والتفكير بالتمني"، هل الخبير الألماني على حق؟
الوقائع على الأرض تبين أن ذلك كذلك، لا سيما وأنه لم تكن قد مرت 24 ساعة على الإعلان إلا وكانت المرتزقة التابعة للوفاق تمضي إلى منطقة الأصابع الليبية، عبر المدرعات المسلحة، لتهجر السكان، وتطردهم من بيوتهم، وليسقط أول قتيل.
الإشارة الأكثر مدعاة للقلق تبدت في الساعات القليلة الماضية، وذلك من خلال تصريحات الناطق باسم "المجلس الاستشاري" في طرابلس، والتي أشار فيها إلى أن مجلس الدولة لم يكن على دراية تامة بإعلان رئيس المجلس فايز السراج، الرامي إلى إيقاف فوري لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد.
الناطق "محمد عبدالناصر"، وفي لقاء له مع قناة الجزيرة القطرية، طالب بسحب كامل القوات من سرت، وبسط الوفاق سيطرتها على كامل ربوع ليبيا، مضيفا: "نحن سننتظر ونرى هل من الممكن أن تنفذ تلك البنود، أو ننتقل إلى مرحلة أخرى ربما إلى حرب جديدة؟".
العبارة القاطعة في حديث عبدالناصر، والتي تبين لنا كيف أن هذا الاتفاق عرضة لأن يذهب أدراج الرياح في أسرع وقت، هي تلك التي أكد فيها أنه "إذا لم يستجب حفتر لمبادرة وقف إطلاق النار، فإن حكومة الوفاق يمكنها القتال بمساعدة الحليف التركي لحسم الأزمة في سرت والجفرة".
ما الذي تعنيه التصريحات السابقة؟
من المؤكد أن هناك موقفا تركيا ثابتا لا يتغير، وأن ما جرى من قبل الوفاق ليس إلا توزيع أدوار؛ يذهب السراج في جهة التهدئة، محاولا كسب الوقت، وتغيير مشهد التوازنات الدولية، لا سيما حول سرت والجفرة، فيما جناح آخر يكشف عن نوايا مغايرة تدعم السراج إن ذهب إلى مفاوضات مع الشرق الليبي، وفي الحالتين تبقى كافة الأطراف في طرابلس كالدمى في أيدي العثمانلي، صاحب الرؤية الأكبر والأخطر في المتوسط وأفريقيا على حد سواء.
تصريحات عبدالناصر تمضي في طريق الإقصاء المبكر، ذلك المرتكز على حماقة القوة، من غير أي مقدرة حقيقية على تفعيل آليات التفاوض، ما يبطل فاعلية أو واقعية الإعلان مبكرا جدا، وعنده أن موقف المجلس ثابت من أن الحوار مع المشير حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، لا يمكن أن يكون، وأنه من المستحيل أن يكون هناك حوار معه، وكذلك لا يمكن إعادته إلى الدائرة السياسية، أو أن يكون له دور في المعادلة السياسية الليبية في قادم الأيام".
حين تتسرب الشكوك إلى نفوس وعقول المراقبين للإعلان الليبي، فإن ذلك مرجعه ربما إلى مدركات الوفاق والمجلس الاستشاري، والمقاربات الزائفة التي يقدمونها للعالم، تلك التي تسعى لشرعنة التدخل التركي، والتذرع بأن ذلك جرى في العلن وباتفاق موقع ومعلن مدته سنة قابلة للتمديد مع أنقرة، وفي الوقت نفسه اتهام الشرق الليبي بأن علاقاته تقوم في الخفاء.
ربما نسي أو تناسى القائمون على المجلس الاستشاري في الغرب الليبي، مشاهد غرف الحرب التركية في القواعد الليبية، حيث جنرالات العثمانلي يحكمون وينهون، يفكرون ويقررون، وعليه عن أي مقاربة زائفة يتكلمون؟
الموقف التركي من الإعلان الليبي الأخير موقف زائف بالضرورة والحتمية التاريخية، وما الكلمات المعسولة إلا ضرب من ضروب التقية التقليدية.. هل من دليل على ما ننحو إليه في هذا التحليل؟
الشاهد أن وقف إطلاق النار يحتاج -قبل كل شيء- إلى آليات دعم تتمثل في قوات فصل بين الجانبين المتقاتلين، ولعل دول الجوار الأقرب جغرافيًّا، والأوثق والألصق ديموغرافيًّا، وهي: مصر والجزائر وتونس والمغرب، فهي المهيأة للعب هذا الدور، لا سيما في منطقتي سرت والجفرة، فهل سيقبل أردوغان بهذا الطرح، أم أنه سيكون بمثابة إفشال لمخططه الكبير والواسع الخاص بمصراتة، ذاك الذي تتجاوز أهدافه الاستراتيجية ليبيا؟
من غير تطويل ممل أو اختصار مخل، لا يمكن تصور جدية تركية في زخم ودعم عملية سلمية في ليبيا، في حين يرسل السلطان المتوهم وزير دفاعه ورئيس أركانه بهدف وضع خطة للسيطرة على ميناء مصراتة، الأهم بين موانئ ليبيا.
هل سيقبل الأتراك إبطال كافة مشروعاتهم، ضمن سياقات العثمانية الجديدة التي حددوا لها موعد انطلاق 2022، حال توافَقَ الليبيون على توحيد أراضيهم وإعلاء سيادتهم، وطرد المرتزقة والأجانب؟
يجيء الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي "غريغوري لوكيانوف "ليقطع بأن تركيا لا يمكن بحال من الأحوال أن تتخلى عن ليبيا، وأن رؤاها لها تمتزج بنوايا الهيمنة عليها، ولها في ذلك مآرب متعددة.
نظرة أنقرة لليبيا عامة، ولميناء مصراتة خاصة، تتمثل في موطئ قدم على المتوسط، يجعلها تصول وتجول في البحر الأبيض المتوسط، للتنقيب عن الغاز والنفط تارة، وللكيد لدول الجوار تارة أخرى.
تركيا لا تتناسى ثاراتها التاريخية من أوروبا، وعلى شاطئ المتوسط يمكنها أن تهدد القارة العجوز، بإمدادات الطاقة مرة، وبالمهاجرين الأفارقة مرة ثانية، أما الثالثة فمن خلال الإرهابيين، وعلاقاتها بالدواعش وضَّحها "ديفيد فيليبس"، مدير برنامج "بناء السلام والحقوق"، في معهد دراسة حقوق الإنسان بجامعة كولومبيا في أبريل 2017، حين قدم للحكومة الأمريكية تقريرا يفصل فيه ما وصفه بالتعاون العسكري بين حكومة أردوغان وداعش من توفير الأسلحة، والدعم اللوجستي، والمساعدة المالية، والخدمات الطبية للإرهابيين.
ليبيا نقطة ارتكاز جذرية للدخول التركي إلى العمق الأفريقي ومزاحمة القوى الدولية الكبرى على كعكة الموارد، وفرص العمل، وأياديها غير بعيدة عما جرى في "مالي"، ربما انتقاما من فرنسا تحديدا.
قبل ساعات، كشفت وكالة بلومبيرج عن تعديل نظرة تركيا المستقبلية إلى سلبية بسبب استنفاد احتياطيات النقد الأجنبي، وضعف مصداقية السياسة النقدية التركية.
ومن جهة مقابلة، لم تنطل قصة غاز البحر الأسود لا على الأتراك ولا على العالم، وعليه تبقى ليبيا "مغارة علي بابا" بالنسبة للأتراك، الأمر الذي يشكك جديا في جدوى النوايا العثمانلية تجاه الإعلان الليبي، لا سيما في ظل حال الميوعة السياسية الدولية تجاه المشهد الليبي المعاصر والمأزوم.
aXA6IDMuMTQ1LjEwOS4xNDQg جزيرة ام اند امز